هل نعادي التاريخ أم أن التاريخ يعادينا؟

09 أكتوبر 2014

نجد سعادةً لا تضاهى، بتعليل كوارثنا ومآسينا بمنطق خرافي(Getty)

+ الخط -

نظلم هذه الذات الجماعية، ونلحق بها سلسلة ثقيلة من الرضوض والكسور الفظيعة، عندما نحشرها في خانة التمجيد والدفاع المجاني عن تناسقها وتناغمها الافتراضي. نحكم عليها بالإتلاف، أو لنقل نمارس عليها عملية إخصاء قبل الأوان، فنشرع في تشييد طوابق جذابة من الغزل والإطراء، لنؤطر أنفسنا بتطلعاتٍ، يشوبها الغموض والتنافر والـ"لا انسجام"، ويحدث هذا من دون أن نتجشم عناء الالتفات، ولو نادراً، إلى أخطاء كثيرة توليّنا مهمة توفير الشروط الملائمة لانتشارها العمودي والأفقي في جغرافيتنا وعلاقاتنا، هذه الأخطاء التي تختزل، بكثافة مريرة، انهيارنا الداخلي، وجراحنا النرجسية المترعة بالندم المتأصل في بؤرنا الواعية واللاواعية.

خلقنا من أنفسنا مادة للاستهلاك الساذج، والتناول السطحي، وحولنا كل ما يمت إلينا بصلة إلى علامات مغلفة بالتقديس، ولم نعمد إلى الخلخلة الجذرية لأساسيات التطور، وأواليات التحرك باتجاه مواقع راقية، تفسح المجال أمام انبثاق إمكانات متعددة، لإعلان الانتماء إلى الحاضر المتحول باستمرار، والانخراط في معترك الأسئلة الجوهرية، المنحوتة من صلصال الإحساس الجماعي بضرورة التغيير المعقلن لصورة الذات الجماعية، والبحث عن شكل وظيفي لها، بما يموضعها في البقعة الديناميكية من قارة الإبداع والخلق والمساهمة النوعية في صياغة القيم الكبرى والمشاريع التوّاقة إلى تمتيع المواطن العربي بالتوازن والثقة، والقدرة على اختراق الجدران السميكة التي اعتاد أن يواجهها ويكابدها في حياته، المطبوعة بالتقلب والترقب والتردد.

وعلى الرغم من هذه المؤشرات غير المطَمْئنة، فإن التفكير في ارتياد أفق بديل للذات الجماعية، المصابة بالعقم والهشاشة، لم يتحقق، لأن الثوابت التي ظلت صامدة في فضائنا العام تترجم بوضوح ذلك الإجماع شبه التلقائي، لنبذ منطق التطور وصيرورته. وفي المقابل، الإبقاء على حالة الثبوتية التي عادة ما تكون مصحوبة بلذةٍ، يصعب عقلنتها وتفسيرها، اللهم إذا اقتنعنا أن عناصر هذه الذات ومكوناتها تعشق مشهد التدمير، وتؤلّه العذابات والآفات، باعتبارها متراساً وهمياً يحول دون فقدان أمل التمترس في الموقع ذاته، وهو، على كل حال، موقع هش وآيلٌ للسقوط في كل لحظة، علماً أن هذا السقوط، وعلى الرغم من كل تداعياته وأعراضه، لم يتحول إلى مدرَك عقلي، قابل للتأمل والمساءلة الذكية ، كيما يتسنى لنا احتلال مكان ينطق بهويتنا الحضارية، ويمثلنا على الأصعدة كافة، لاسيما أن من لا حضور له في العالم وفي صناعة التاريخ، كمن لا شرايين له، تسري فيها دماء الحياة، وتتناسل عبرها العلامات الدالة على العبقرية والانطلاق والتجديد والتحديث.

هل نعادي التاريخ أم أن التاريخ يعادينا؟ لماذا ارتضينا لأنفسنا المكوث في هذا المكان الظليّ المطبوع بالشحوب؟ لماذا وقعنا في فخ تنظيم الغياب وتقعيد التهميش؟

مجرد أسئلة تتغيّا السفر عبر تضاريس ذاتنا الجماعية، لنقترب من بعض أعطابها وأزماتها، ولتفتح نوافذ عريضة تمكننا من التوغل في ما تراكم من تلفيق ونفاق وأخطاء، أضحت، مع مرور الأيام والأعوام والعقود، عبئاً يصعب التخلص منه، وهذه خطوة لابد منها لضمان طفرة حقيقية، تحصننا من الأوبئة القاتلة واللاغية أي شرط يسمح بتشكل نظرة نموذجية، تمتهن التجاوز، وتراهن على المستقبل، والتي من المفروض أن تكون ترجماناً للعطاء والإنتاج والفعالية.

نورط، أحياناً، أنفسنا في متاهات مسيجة بمقتضيات ميتافزيقية، ونجد سعادةً لا مثيل لها، كلما عللنا كوارثنا ومآسينا بمنطق خرافي. إننا نرفض باستمرار الاعتراف بقصورنا وسلبياتنا. وفي المقابل، نواسي ونهدهد صورتنا المهزوزة بتحميل التاريخ وسياقاته ما جنيناه من سقطات ونوازل، من دون بذل أدنى مجهود، لتقديم نقد ذاتي ينتصب حكماً نبيهاً بيننا وبين ما اعترانا من فواجع وضربات. وأكثر من هذا، ترسخت في أعماقنا المظلمة، وقناعاتنا المضطربة، نزوعات شاذة، تنم عن الانفصام والانعزال والإغراق في التنقيب عن من نلصق به تهمة الوصول إلى هذا الوضع المشروخ والمتصدع، والمليء باللوحات الكاريكاتورية التي ما فتئت تتكاثر وتتأصل في أنساقنا المادية والرمزية.

وهكذا، اعتنقنا، وبحرارة جارفة، نمطاً حضارياً، لا يتقن سوى تعميم التواكل والاستسلام والقبول الطوعي بصفة التخلف والتقوقع واللاحركة. فقدنا آليات التحكم في المسار، فتشظت بنيتنا بكيفية تراجيدية. مشخصة بذلك رعبنا المسكوت عنه، وتهافتنا السري المسربل بمختلف الأصباغ والمساحيق. تبوأنا الأمكنة المعتمة، حيث لا مساحة للشمس فيها، فحرمنا من نشوة وخدر التباهي بجمالية الصورة التي من المفروض أن تجسد تنوعنا وتعددنا ومخزوننا الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الخصب.

حلمنا بالنهضة والتقدم والسير في ركاب الأمم المبدعة، وامتشقنا شعارات ومصطلحات كثيرة، نطقناها بمختلف اللغات والخطابات، وعرّضناها لما لا حصر له من الاستعمالات التي هي، في مطلق الأحوال، منصاعة ومستجيبة لمقاصد الأيدولوجيا وأهداف الاستقطاب والتجاذب وتكوين الجماعات المحترفة للتضليل وبث القناعات الشاحبة في نفوس من ينظر إليهم على أنهم الدرع الواقي، والقلعة الصلبة لمجابهة تطاول خصوماً ومتآمرين يصعب تحديد هويتهم، فتنزلق الذات، مرة أخرى، لتجد نفسها سجينة رهانات طوباوية لا تعزف سوى إيقاعات الوهم والخديعة والمخاتلة .وهذا هو الدليل الدامغ على قدرتنا الفعلية، وطاقتنا الجبارة الملمة بأسرار وخبايا إنتاج اليأس وتنظيم  الغياب كظاهرة سوسيو-ثقافية وسياسية، انتشرت، بشكل لافت، في أنسجتنا وفضاءاتنا ومؤسساتنا. وتأسيساً على ذلك، فقدنا مناعة ضرورية، لا غنى لنا عنها، عندما أخللنا بركن جوهري في مسلسل الانتقالات الكبرى والمصيرية، هذا الركن يختزل في مفهوم "المسؤولية" كسلوك وكقيمة وكإدراك وكوعي وكإحساس بخطورة السياقات والتحديات التاريخية ودقتها.