05 نوفمبر 2024
هل سقطت أوهام "صفقة" الإسلاميين وأميركا؟
لا ينبس سياسيون ومثقفون يساريون وقوميون عرب، اليوم، ببنت شفة عن "الصفقة" بين الولايات المتحدة والإسلاميين التي أثاروا ضجيجاً إعلامياً وسياسياً هائلاً عنها بالأمس، قبل أنّ يبدأ الرأي العام العربي، منذ العام الماضي، يكتشف أنّه "لا صفقة ولا مَن يحزنون"!
بالعودة إلى الفترة الأولى من عمر الربيع العربي، منذ العام 2011، بعدما سقط النظامان التونسي والمصري، وتصاعدت الاحتجاجات في سورية وليبيا، انقلبت نخبة واسعة من العلمانيين العرب على نفسها، وعلى آرائها السابقة التي كانت تطالب بالديموقراطية والإصلاح السياسي، إذ بدأت تصف ما يحدث في المنطقة العربية من احتجاجات وتظاهرات تنادي بالحرية والديموقراطية، بأنّها "مؤامرة". ليس ذلك فحسب، بل اصطفّت هذه النخبة مع النظام السوري، ثم وقفت، لاحقاً، مع الانقلاب العسكري في مصر.
بالعودة إلى الفترة الأولى من عمر الربيع العربي، منذ العام 2011، بعدما سقط النظامان التونسي والمصري، وتصاعدت الاحتجاجات في سورية وليبيا، انقلبت نخبة واسعة من العلمانيين العرب على نفسها، وعلى آرائها السابقة التي كانت تطالب بالديموقراطية والإصلاح السياسي، إذ بدأت تصف ما يحدث في المنطقة العربية من احتجاجات وتظاهرات تنادي بالحرية والديموقراطية، بأنّها "مؤامرة". ليس ذلك فحسب، بل اصطفّت هذه النخبة مع النظام السوري، ثم وقفت، لاحقاً، مع الانقلاب العسكري في مصر.
عاملان أساسيان دفعا إلى تحولات النخبة العربية؛ الأول هو الثورة السورية التي قامت ضد نظام الأسد "البعثي"، وهو الذي يُنظر إليه بوصفه قومياً ممانعاً، وترتبط به هذه النخبة، سياسياً وأيديولوجياً. أما العامل الثاني فيتمثّل بالنجاحات الانتخابية الإسلامية الكبيرة، في كل من مصر وتونس والمغرب، ما أحدث هاجساً لدى النخبة بأنّها ليست في الطريق فقط إلى التهميش في الأنظمة السياسية الجديدة ذات "الأغلبيات الإسلامية"، لضعف قاعدتهم الجماهيرية، بل حتى خسارة "المكتسبات العلمانية"، التي تحققت من خلال الأنظمة الأوتوقراطية العربية في العقود السابقة، وهي الهواجس التي اشتركت معها فيها الأقليات الدينية والطائفية، القلِقة من الصعود الإسلامي.
ثمّة ما يمكن تفهّمه من هذه الهواجس، وربما ما يبرّره مع الأخطاء والخطايا التي وقعت بها حركات إسلامية، في عدم إدراكها خصوصية اللحظة التاريخية، وما تستدعيه من توافقات وتفاهمات وطنية عميقة، وما تحتاج إليه النخب العلمانية والشرائح الاجتماعية الأخرى من ضمانات ورسائل طمأنة حول مستقبلها ومصيرها، وهو ما لم يحدث في مصر، تحديداً، التي تمثّل أحد أهم الموازين للمزاج السياسي في المشرق العربي، وقد تزامنت الهواجس العلمانية مع بروز السلفيين على "الركح" السياسي العربي، بما يحمله هذا التيار من خطاب اجتماعي مغلق ومتشدد، ومتحفّظ تجاه الديموقراطية عموماً.
بالضرورة، ذلك لا يبرر بأيّ حالٍ وقوف تيار عريض، قومي ويساري، ضد حق الناس بالحرية والديموقراطية في سورية من جهة، وتأييد الانقلاب العسكري، وما حدث من مجازر في ميداني رابعة العدوية والنهضة في القاهرة، وغض الطرف عن الثورة المضادة التي حدثت، وحجم الانتهاكات الهائل لحقوق الإنسان والحريات العامة، وعسكرة الحياة السياسية المصرية من جديد، من جهة ثانية.
الدلالة الرئيسة في موقف هذه النخبة تتمثّل في أنّه يستعيد مقولة التيارات القومية واليسارية في عقود الخمسينيات والستينيات بأن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، باعتبار أنّ المعركة من أجل الديموقراطية والحريات العامة هامشية أو ثانوية، مقابل الدعاوى الأيديولوجية التي فشلت تجربته التاريخية بتحقيقها، فتحولت أنظمة دكتاتورية. ذلك يثير شكوكاً، ويطرح علامات استفهام معكوسة تماماً، حول حقيقة الموقف الجوهري لهذه التيارات من الديموقراطية، وفيما إذا كانت، وهي تطالب الإسلاميين بإثبات إيمانهم بالديموقراطية والتعددية، وتفتّش في نواياهم الباطنة، قد قامت بأيّ مراجعة حقيقية عميقة لأخطائها الأيديولوجية والسياسية التاريخية في العقود الماضية، بخاصة أنّ تجربتها في الحكم قدّمت دلالات سلبية، وغير مشجّعة البتة، تجاه الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان وحماية الحريات العامة، أو حتى نحو الأهداف التي رفعتها في الوحدة والعدالة ومواجهة المشروع الصهيوني.
المراجعة الأخرى المطلوبة من هذه النخبة التي تدين باعتذار شديد وكبير للرأي العام العربي، تتمثّل بالخطأ الكبير الذي اقترفته بإدانة الربيع العربي نفسه، وتجرّأ بعضهم على القول إنّ هذه الثورات قامت على عملية تلاعب واسعة بالعقل الجمعي الشعبي العربي، تولّت القيام بها الفضائيات الإعلامية مع مؤسسات المجتمع المدني، وتقف وراءها أجندة غربية وأميركية، تريد إعادة فكّ المنطقة وتركيبها، على خطوط جديدة، ترسمها حدود الطائفة والدين والعِرق، وتُقسِّم المقسّم.
بالتزاوج مع دعوى أنّ الربيع الديموقراطي هو غطاء لمؤامرة غربية، تمّ صوغ دعوى أخرى بوجود "صفقة" بين الولايات المتحدة الأميركية والحركات الإسلامية (الإخوان المسلمين)، تقوم على منح هذه الحركات الفرصة للحكم، في مقابل اعتراف الأخيرة بإسرائيل، وحمايتها المصالح الغربية والأميركية، والالتزام بالنهج الليبرالي الجديد في السياسات الاقتصادية.
ربما نعود، في مقالٍ لاحق، إلى موضوع السياسة الأميركية تجاه الإسلاميين، إلاّ أنّ ما يعنينا اليوم هو أنّ هذه القراءة المتعسّفة للربيع العربي التي حكمت مواقف هذه النخبة العريضة المؤثّرة، سقطت تماماً، وظهر أنّ المؤامرة والصفقة مجرّد أوهام في ذهن هذه النخبة. فموقف الولايات المتحدة مبني دائماً على المصالح، والمعيار الجوهري فيه هو البراغماتية الشديدة، لكنّه لا يفضّل، حتى في إطار هذه الواقعية السياسية، التعامل مع حركات إسلامية، ولا يطمئن إليها، لاعتبارات عديدة، في مقدمتها العاملان الإسرائيلي والثقافي (المبنيّ على صورة ذهنية متراكمة).
بالغ أصدقاؤنا اليساريون والقوميون، وضخّموا من حجم محاولات التقارب والتفاهم التي حدثت بين الولايات المتحدة والإسلاميين، في الفترة الأولى من الربيع العربي، وبنوا ناطحات سحاب من الفرضيات، أو بعبارة أدق، أوهاماً على "رمالٍ متحرّكة"، خشيةً من نفوذ التيار الإسلامي، وصعوده بتأييد أميركي وغربي، ليكتشفوا، اليوم، أنّ الموقف الأميركي، والغربي عموماً، داعم للانقلاب العسكري في مصر، ومتحالف مع الأنظمة المحافظة في المنطقة، ومراوغ ومخادع في الموقف من الثورة السورية، ومن الشعب الذي يتعرّض لمحرقة تاريخية، بمباركة هذه النخبة، وبدعوى مواجهة "المؤامرة" ـ الصفقة.
ذلك لا يعني أنّ الإسلاميين لم يخطئوا، أو أنّ سلوكهم السياسي سيكون، بالضرورة، ديموقراطياً، فهؤلاء، أيضاً، مطالبون بمراجعة عميقة، ربما أكثر قسوة من مراجعة النخب اليسارية والقومية، لكن القوميين واليساريين استُخدموا، وما يزالون (فحمدين صباحي يخوض انتخابات محسومة سلفاً في مصر)، لتبييض الثورة المضادة والانقلاب العسكري وارتكاب المجازر، وعملية وأد حلم الحرية والديموقراطية بذرائع واهية، وكانوا، بوعيٍ أو غير وعي، جزءاً أساسياً وفاعلاً في الأجندة الإقليمية والمحلية، المعادية للتغيير الذي بدأ ينتشر في المنطقة.
سقطت أوهام المؤامرة ـ الصفقة بين الإسلاميين والولايات المتحدة، لكن "الصفقة" التاريخية الحقيقية بين الولايات المتحدة والأنظمة الأوتوقراطية العربية هي التي نجحت، على الأقل مرحلياً، في تخويف الجمهور من الربيع الديموقراطي، والعودة إلى المعادلة التاريخية في المفاضلة بين الأمن والاستقرار والسلام الداخلي، ما يعني العسكرة والدكتاتورية من جهة، والديموقراطية من جهة أخرى.