هزيمة 67 ليست قدراً ولا مؤامرة

هزيمة 67 ليست قدراً ولا مؤامرة

05 يونيو 2014

دبابات إسرائيلية في القدس في 10 يونيو/حزيران 1967

+ الخط -
مرّ نحو نصف قرن على هزيمة 1967، وسُوِّدت صفحاتٌ لا حصر لها في تشخيص الهزيمة، وتوصيف أسبابها ونتائجها، كما بُذِلت جهودٌ عديدة لتدارك جوانب من الأبعاد التي تولَّدت في المجتمع العربي والثقافة العربية. وقد اتخذت مسارات الأحداث، في مختلف الأقطار العربية، سمات متنوعة، يجمعها ناظمٌ مشترك، يتمثّل في عدم قدرة الأنظمة العربية، ومؤسسات العمل الشعبي العربي، على استكمال تحرير الأرض المحتلة في فلسطين، وعدم قدرتهم، في الوقت نفسه، على تدارك جوانب من تأخرهم التاريخي الشامل.
تابعنا في العقود التي تلت الهزيمة مُجَمْل البكائيات العربية، كما اعتنينا بالنقد الجذري الذي بلورته بعض تيارات الفكر السياسي العربي، وهي تمارس تشريح الهزيمة، مُنتقدةً أساطير الذين ساهموا في صنعها. كما تابعنا جهود الحركات التي واصلت حراسة قيم المقاوَمَةِ والمواجهة، مُحاولةً فَهمَ أسباب ما حصل، من أجل العمل على رَفعه وتجاوزِ آثارهِ السلبية على العقل والوجدان العربيين، إلا أننا، في غمرة ذلك كله، لم نتمكن من تركيب ما يسمح بركوب دروب المواجهة، القادرة فعلاً على فك حصار الهزيمة، فهل الهزيمة قَدَر عربي؟
لا نعتقد أن هزيمة 67 قدراً ولا عقاباً سماوياً، بل إننا قرأناها أمس، ونقرأها اليوم، محصّلة تاريخية لأفعالٍ قابلة للتشخيص والتعقّل، أفعالٍ لا علاقة لها بالشعارات والأساطير التي حملتها قيادات عربية، خاضت الحرب في ستينيات القرن الماضي. ولعلّ ثقل الهزيمة حصل بفعل السقوط الأعظم للشعارات التي كانت تحملها القيادات السياسية والعسكرية، من دون عنايةٍ برصد نوعية الصراع وشروطه، ومن دون إنجاز الحساب الدقيق لمعطيات مجال الصراع الداخلية والخارجية، القومية والإقليمية، وكذا من دون مراعاة، أيضاً، لقواعد الحرب، كما جرت وتجري في التاريخ.
كان انهزامنا سنة 67 مُستحقّاً بمعايير التاريخ، ولا وقت اليوم لاسترجاع الذكريات بمنطق الوجدان المَكلُوم، بل تتحدد اللغة الأقرب إلى التاريخ، في تصوّرنا، في تحويل زمن الذكرى إلى مناسبةٍ تسعف قياس الجهد المبذول، لتدارك ما حصل، ولتدارك ما لم يتم تداركه في الزمن الذي تعاقب من دون أن نتعلّم منه، وإلى حدود يومنا هذا، قواعد السياسة والحرب في التاريخ.
ليس الارتباك السياسي الذي يملأ اليوم المشهد السياسي العربي مجرد مؤامرةٍ تمليها إرادة خارجية، تروم استغلال موارد الجغرافيا والتاريخ العربيين، لحساب إرادتها في الهيمنة، وترتيب نظام عالمي جديد في ضوء متطلبات التعولم الكاسحة. وتقدم هزائم اليوم المُضاعفة في المشرق العربي، في العراق والشام، وفي مناطق عربية أخرى، مغرباً ومشرقاً، علامات على تحولاتٍ في التاريخ، محكومةٍ بأسباب مُحدَّدة، وعندما نفترض أنها في بعض جوانبها قد تكون محصلةً لآلياتٍ في العمل السياسي، تروم مزيداً من وقف الطموح العربي في النهضة والاستقلال، واستكمال التحرر والتحرير، فإن هذا الذي نسميه هزائم عربية، أو بلغة مُلطَّفة، ارتباكا عربياً مشهوداً، لا يعفينا أبداً من مسؤولية ما حصل ويحصل.

ينبغي أن نواصل الاعتراف، في موضوع الهزائم العربية، بأخطائنا التاريخية الكبرى، الممهّدة لمجمل ما حصل في تاريخنا المعاصر. ففي مختلف مظاهر سُوءِ تدبيرنا أحوالنا العامة، ولمشروعنا في تحقيق مقومات التحرر والنهضة، ما سهَّل ويسهل إمكانية الاختراق والانكسار والانكفاء الحاصل، اليوم، في واقعنا... فنحن لم نتمكن، في نحو نصف قرن، من مغالبة مظاهر الوهن في أحوالنا العامة.
لا يتعلق الأمر بما نحن بصدد رصده، بأنظمتنا السياسية وحدها، بل إنه يشمل أيضاً تنظيمات المجتمع المدني، حيث تنشأ، اليوم، فيها معارك تكشف استمرار غياب مأسسة آلياتها في العمل ودمقرطتها.
اشتعلت البؤر في المجتمعات العربية، بعد انفجارات 2011، وهي تضعنا اليوم مجدداً أمام نزوعات إثنية وطائفية، لا علاقة لها بمجتمع المواطَنة الذي نتطلع إليه. ومعنى هذا أننا لم نتخلّص بعد من أعباء القبيلة والعشيرة في مجتمعاتنا، ولم نعمل على بناء أصول الحداثة السياسية في واقعنا السياسي والتاريخي، حيث ما تزال تهيمن على تفكيرنا وممارساتنا آليات معادية للغة النسبية والتاريخ، لغة الاحتكام إلى منطق العقل، وتجارب الأمم في التاريخ.
وقد اغتبطنا أخيراً لانطلاق مبادرة المصالحة الفلسطينية بين حركتي حماس وفتح، في زمن تميّز بمزيد من التصلّب الإسرائيلي، كما تميّز بتداعيات ما بعد الانفجارات العربية، حيث ترك الشأن الفلسطيني لموازين القوى المحلية والدولية، ما أضعف مسار المفاوضات، ومنح إسرائيل إمكانية التمادي في سياستها الاستيطانية، إلا أن المبادرة المذكورة تتيح لنا، ونحن نتذكر هزائمنا، إمكانية مواجهة عللنا، فهل نستطيع ذلك؟
نتصوّر أن أفضل طريقة لمعاينة الذكرى تستدعي تشخيصاً جيداً لمآلات الراهن، ولأفق المصالحة الحاصلة، والآمال المعقودة عليها. كما يدعونا مشروع المصالحة للتفكير مجدداً في السياسات المطابقة لمختلف صور الوعي السياسي، المواكب مسارات الصراع الفلسطيني ـ العربي ـ الإسرائيلي، فهل نقدر على ذلك؟

 
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".