هروب مستمرّ من الموت

هروب مستمرّ من الموت

27 اغسطس 2015
هكذا إذن، يتسلّل الموت إلى أوقات الطمأنينة (فرانس برس)
+ الخط -
كم مرّة اضطررنا لإلغاء رحلة ما بسبب انفجار قرب مكان ذهابنا، أدى لتخريب المكان، وإغلاق الطرق، إنه أمرٌ متكرر ومملّ، أحياناً حين نمّر بالقرب من مكان الحادث، نشاهد بعض الشظايا وبقايا الدماء، ليس هذا أمراً غريباً، إنه عاديّ، كنا نأسف لأننا لم نستطع الوصول لوجهتنا، وقد نلوم الضحايا لاختيارهم وقت مرحنا لموتهم. أما كان باستطاعتكم تأجيل موتكم حتى نصل ؟ لكن لا بأس، المهم أننا وصلنا متأخّرين، إذ لربما كنا في عداد القتلى أيضاً.


كتبت صديقة لي على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، عن حماستها لأنها متّجهة لمنطقة المنصور ببغداد لقضاء نهارها بالتسوّق هناك والسير مع عائلتها، وبينما كنت أتهيّأ لأكتب لها تعليقاً مناسباً أتمنى لها فيه قضاء وقتٍ ممتع، انتبهت أن كلّ التعليقات على ما كتبته كانت تهنّئها على سلامتها من الانفجار الذي حدث في المنصور، كان هذا مريعاً، ببساطة بالغة، تتحوّل اللحظات التي تهيّئنا لها بكّل حماسة، إلى أوقات هلع ورعب، وقفزٍ من فوق الجثث بملابس تلوّثها الدماء.

لكنّ هذا لم يُثنِ الصديقة عن رحلاتها الأخرى، ما إن انقضت الليلة وبدأ يومٌ آخر، حتى بدأت هي يومها كأن موتاً لم يحدث أمامها أمس، كأن ناراً لم تشتعل قربها وكأن أرواحاً لم تنتهِ حياتها ، بدأت برحلة أخرى إلى مكان آخر وبحماسة مختلفة، ربما هذا أكثر ما هو مخيف في الأمر، أن يتحوّل الموت لأمرٍ عاديّ، يتلاشى من الذاكرة بسهولة!.

خسرت إحدى القريبات ابنها قبل سنوات، يوم كانت القوات الأميركية ما تزال موجودة في العراق، سقطت بالقرب منه قذيفة هاون وكانت سبباً في قتله، لم تستطع الأم تقبّل هذا، تحوّلت حياتها للحظات هلعٍ وخوف دائمة، تفزعها "أخفّ الانفجارات والاشتباكات"، صار شبح خسارة الأبناء يلاحقها، وبعد الأحداث الأخيرة في الانبار، وخوفها من القصف والاشتباكات، ازداد خوفها، هل ستسمح لهذه الحرب المجنونة أن تسلبها ابناً آخر، بقيت أشهراً تحاول الخروج من مدينتها غرب الأنبار والذهاب لمكان أكثر أمناً، حتى تمكّنت أخيراً من السفر لإقليم كردستان، استأجرت بيتاً وبدأت بداية جديدة ومختلفة بعيداً عن أرض الحرب والخوف، لكن الموت لحقها حتى هناك، وسرق منها ابنتها الصغيرة، لم تقتل الفتاة برصاصة أو سيارة مفخخة ، ماتت بحادث سيّارة.

هكذا إذن، يتسلّل الموت إلى أوقات الطمأنينة، والراحة المؤقتة، إنه يريد منّا أن نخاف منه دائماً، أن نراه في كلّ سيارة، أو طريقٍ ملتوٍ، أو شخص ذي ملامح غريبة، في كلّ جسرٍ نعبره، وكلّ بداية.. يا لهذي البلاد الكريمة التي لا تستطيع إغلاق أبوابها في وجه هذا الموت/ القتل/ الخوف اللعين.

(العراق)

دلالات

المساهمون