من مسيرة العودة إلى إحياء النكبتين في سورية

من مسيرة العودة إلى إحياء النكبتين في سورية

18 مايو 2015
"إعادة تدوير الصبر" (2015)
+ الخط -

في عام 2011 أحيا اللاجئون الفلسطينيون في سورية الذكرى الـ63 للنكبة بطريقة غير مسبوقة، وذلك باجتيازهم خطّ وقف إطلاق النار مع إسرائيل. ففي موقع "عين التينة" الحدودي في محافظة القنيطرة السورية، تجمع آلاف الشبان الفلسطينيين لإحياء ذكرى النكبة. وعلى غير العادة، حاول المئات منهم اجتياز حقول الألغام والأسلاك الشائكة، في مشهد استثنائي لم تعرفه المنطقة منذ العام 1967. المفاجئة الأهم تمثلت بتمكن أكثر من مئة شاب فلسطيني الوصول إلى بلدة مجدل شمس في الجولان السوري المحتل.

كان الحدث فريداً بكل معنى الكلمة. فمن جهة، كانت المرة الأولى التي يحيي فيها الفلسطينيون في سورية ذكرى النكبة بالاشتباك مع قوات الاحتلال الإسرائيلي واجتياز الحدود في تطبيق فعلي وصريح لحقهم في العودة بعد أن كان نشاطهم سنوياً يقتصر على المهرجانات والمؤتمرات الحزبية الباهتة والمكررة.

أما من جهة النظام السوري، فكانت المرة الأولى التي يسمح فيها بالاقتراب من حدود الجولان المحتل وتخطيها. كان نظام الأسد في تلك الأثناء يواجه ثورة شعبية بدأت قبل نحو شهرين في درعا لكنها توسعت بوتيرة سريعة لدرجة أن النظام السوري اضطر قبل ذكرى النكبة بأيام لبدء حملة عسكرية في كل من حمص وبانياس بالإضافة للحملة العسكرية في مدينة درعا. ضمن هذه الأجواء، سمح نظام الأسد لمئات الفلسطينيين بالاشتباك على الحدود مع الجيش الإسرائيلي.

يعتقد الباحث والكاتب الفلسطيني ماجد كيالي في حديث لـ"العربي الجديد" أن الدعوة لإحياء ذكرى النكبة بهذا الشكل كانت "فلسطينية خالصة، وفي سياق استنهاض الحالة الوطنية".

ويفضل التمييز بين "تلك الدعوة الصادقة من جهة، ومحاولة النظام والفصائل المدعومة منه تبنيها لاحقاً لاستثمارها سياسيا وحرفها عن مسارها من جهة أخرى". ولا يشك كيالي في أن "الثورة السورية جعلت النظام يرضخ لمطلب ذهاب الشباب إلى الجولان، وهي منطقة محظورة. وهو الذي كان يمنع حتى المظاهرات الرمزية في المخيمات بمناسبة يوم الأرض، بل إن إنشاء نادي رياضي أو إقامة معرض فن تشيكلي أو ندوة شعرية كانت تحتاج إلى إذن من الضابطة الفدائية والجهات الأمنية المختصة".

ولكن، بالنسبة للفلسطينيين، وبعيداً عن حسابات النظام السوري، كان لإحياء ذكرى النكبة بهذه الطريقة أثر ايجابي واضح. وقد أظهر تقرير أعدّه "المركز العربي للحريات الإعلامية والتنمية والبحوث" أن الكم الأكبر من المقالات والأخبار المتعلقة بالنكبة نشرت في العام 2011 حين اجتاز الفلسطينيون في سورية الحدود مع إسرائيل خلال إحيائهم لذكرى النكبة، ويخلص التقرير إلى ما مفاده أن "إحياء ذكرى النكبة بطرق مبتكرة وغير مألوفة له أثر كبير على الجمهور والإعلام الإسرائيلي".

والحال أن مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي ليست هي ما حفزت فلسطينيي سورية على إحياء ذكرى النكبة بتلك الطريقة، وإنما تحويل حدث إحياء ذكرى نكبتهم إلى ما يشبه "الانتفاضة على أسبابها، أي على الدولة الصهيونية" يقول معن محمد الفلسطيني السوري الذي اندفع لتخطي الحدود في ذلك اليوم "العظيم" كما يصفه.

وجد النظام السوري في ما حدث مثالياُ من أجل توجيه بعض الرسائل إلى "إسرائيل" و"المجتمع الدولي"، فدفع باتجاه تكرار الحدث من جديد بعد أقل من شهر، وهذه المرة في ذكرى النكسة بتاريخ الخامس من حزيران/ يونيو 2011.

في المرة الأولى، لم يكن الإسرائيليون قد استعدوا جيداً، وكان لديهم الثقة الكاملة، التي تراكمت خلال عقود مع النظام السوري، في أن هذا الأخير هو حامي الحدود، وهو من تطوع دوماً لقتل كل من يحاول التقدم شبراً واحداً باتجاه الجولان قبل أن يضطروا هم للتحرك. لكن دولة الاحتلال استخلصت الدرس مما حدث فيما سبق، وأدركت لعبة النظام السوري، فتهيأت لعملية قتل واسعة لا تتردد خلالها في إطلاق النار على كل من يقترب من الحدود.

من هنا وقف عدد من الناشطين الفلسطينيين ضد تلك الدعوات وذلك انطلاقاً من الرغبة في "الحفاظ على أرواح الشبان والشابات، أبناء فلسطين، من مشروع كان واضحاً حينها لغالبية أبناء المخيم، مع الأخذ بعين الاعتبار ما كان يدور في الأزقة والأحياء المجاورة للمخيم، من مظاهرات سلمية تنادي بإسقاط النظام في سورية" يقول الصحفي والناشط الفلسطيني السوري ثائر السلهي لـ"العربي الجديد".

ويضيف السهلي: "كانت أرواح مئات وربما آلاف الشبان ستزهق دون جدوى، إذ أن معظم من احتشد في الزحف الثاني كانوا من الفتية الصغار غير المدربين، وكانت رغبة النظام السوري والفصائل الفلسطينية الحليفة له باستثمار دفقة النصر المعنوي الذي حققه اللاجئون في ذكرى النكبة من ذلك العام واضحة، كما كان التلفزيون الرسمي السوري ومعظم وسائل الإعلام الحليفة ترفع من منسوب الحماسة، الذي كان سيصرف عند الحدود أنهاراً من الدماء الفلسطينية". ويخلص السهلي إلى أن النظام السوري أراد "إحراج إسرائيل بدماء الفلسطينيين، هذا كل ما في الأمر".

وفضلاً عن مسألة "الإحراج"، يضيف محمد "الحاجة الملحة لدماء فلسطينية تسفكها إسرائيل لكي تغطي على دماء السوريين التي كان النظام يسفكها في شوارع درعا وحمص وبانياس في ذلك الوقت. أما الفصائل الفلسطينية فكانت هي الأخرى بحاجة لتلك الدماء لكي تستر خمولها، وتملأ فراغات الشرعية المتآكلة". يقول محمد ويشرح حالة الانقسام في صفوف الفلسطينيين:

"كان موقفاً صعباً، فمن جهة ندرك أن محاولة اختراق الحدود والعودة كلاجئين بشكل سلمي هي أسلوب المقامة الأمثل، خصوصاً وأن الأنظمة العربية كانت تحرمنا دوماً من ممارسة هذا الحق بحمايتها حدود الكيان الصهيوني، وهاهي الفرصة تتاح لنا". لكن وبالمقابل، "كان واضحاً أن النظام السوري يريد الشرعية بدمائنا، وكان من الممكن أن نستجلب عداء السوريين بسبب ذلك. في وقتٍ كنا مقتنعين تماماً بأن الشعب السوري الثائر هو نصير قضيتنا، وليس النظام. بهذه المعنى كان دعم ثورة السوريين وعدم إعطاء أي شرعية للنظام وعدم التغطية على دمائهم هو دعم لقضيتنا أيضاً".

لكن، ورغم محاولات الناشطين والضغط من قبل أهالي المخيم لإيقاف النشاط حدث النشاط بطريقة "مشبوهة" كما يقول السهلي وذلك "بتواطؤ بين شخصيات فلسطينية مقربة من النظام وحزب الله (ياسر قشلق) وفصائل فلسطينية كتنظيم أحمد جبريل وبعض الشخصيات من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". كانت النتيجة استشهاد نحو 23 فلسطينياً في ذلك اليوم وإصابة نحو 400 آخرين بأعيرة نارية مباشرة.

أعاد إحياء ذكرى النكبة بهذه الطريقة البطولية والاستثنائية التأكيد على الطاقات الكامنة الكبيرة في صفوف اللاجئين الفلسطينيين في دول الشتات، وأظهر توقهم للحراك السياسي والميداني. لكنه سلط الضوء من جديد على دور الأنظمة العربية التي تعمل على تدجين تلك الطاقات واستغلالها بما يناسب مصالحها. وهو ما يعزز اعتقاد الكاتب ماجد كيالي بأن "للنكبة الفلسطينية وجهين، وجه أول يتعلق بقيام إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني والذي نجم عنه تشريدهم من أرضهم ومن وطنهم، ووجه ثانٍ يتعلق بالأنظمة التي سهلت قيامها بتقييدها قدرات الفلسطينيين، وتحويلهم إلى مجرد لاجئين، لا حقوق لهم، ولا حول ولا قوة".

كما كانت تلك المجزرة التي ارتبطت بصورة أو بأخرى بأحداث الثورة السورية مجرد بداية لسلسلة من المجازر التي سوف تمر على فلسطينيي سورية، ولحصار وحشي وطويل من قبل النظام السوري والفصائل الفلسطينية الحليفة له لمخيم اليرموك في جنوب العاصمة دمشق بعد تهجير الغالبية الساحقة من سكانه.

هكذا اختبر الفلسطينيون نكبةً جديدة في مكان لجوئهم تضاف إلى نكبتهم التاريخية، لكنها هذه المرة "أشد وأقسى" كما يصف كيالي حيث يواجهون "حالة إنكار مريعة لعذاباتهم ومعاناتهم، ولا يجدون الاحتضان والتعاطف الذي لقيه الفلسطينيون إبان تشردهم". ومع ذلك، يمكن أن تعثر على نحو 20 ألف فلسطيني بقوا متشبثين بمخيمهم ومحاصرين في داخله حتى اليوم، منذ ثلاثة أعوام، ويثابرون رغم كل شيء على إحياء ذكرى النكبتين: نكبة العام 1948 على يد العصابات الصهيونية، ونكبة العام 2012 على يد النظام السوري.


(كاتب فلسطيني سوري/ كندا)

دلالات

المساهمون