من الغربة إلى المجزرة: شهادة عن فضّ اعتصام رابعة

من الغربة إلى المجزرة: شهادة عن فضّ اعتصام رابعة

القاهرة

وفاء إدريس

avata
وفاء إدريس
14 اغسطس 2014
+ الخط -
جاء ليقضي إجازته السنوية في مصر، مطلع أغسطس/آب العام الماضي، ولم يكن له انتماء سياسي، غير أنه كان مؤيداً لعدد من قرارات الرئيس المصري المعزول، محمد مرسي، وكان ضد الانقلاب العسكري.

علم، كغيره من المصريين عبر وسائل الإعلام والفضائيات، بنبأ فضّ الاعتصام، صباح يوم 14 أغسطس/آب، فقرر النزول ليشاهد بنفسه ما إذا كانت قوات الأمن ستفض الاعتصام سلمياً كما تردد في وسائل الإعلام أم لا.

ورغم أنه لم يشارك سوى في بضع مسيرات مناهضة للانقلاب فور وصوله إلى مصر، ولم يشهد من قبل أحداثاً فيها تعامُل بالقوة من قِبل قوات الأمن مع المتظاهرين، إلا أنه اتخذ قراره ونزل ليعرف الحقيقة بنفسه، وروى شهادته لـ"العربي الجديد"، طالبا عدم نشر اسمه.

مسيرة لمقر الاعتصام

سحب سوداء تحلق في الأفق يصاحبها رائحة كثيفة جراء القنابل المسيلة للدموع؛ عقارب الساعة تتجه إلى الثامنة والنصف في ذلك الصباح، الذي استيقظت فيه مصر على خبر فض اعتصامي أنصار "مرسي" برابعة العدوية والنهضة.

يتجمع عدد من المواطنين، سيدات ورجال، فور معرفة الخبر من القنوات الفضائية، عند بداية شارع الطيران من اتجاه شارع مصطفى النحاس؛ يهتفون ضد العسكر "هما معاهم تلفزيون، وإحنا معانا رب الكون"، "يا دي الذل ويا دي العار، مصري بيضرب أخوه بالنار".

يقترح أحد المتظاهرين الانتظار قليلاً حتى تتشكل مسيرة كبيرة، ومن ثم يتوجه الجميع لميدان رابعة، يقاطعه صوت الرصاص والمروحيات التي بدأت تحوم حول المنطقة، وينطلق الغاز المسيل للدموع مجددا ليرتفع الهتاف "حسبي الله ونعم الوكيل".

تبدأ قوات الأمن، والقوات الخاصة التابعة لوزارة الداخلية المتواجدة بالقرب من مسجد رابعة العدوية، بالتقدم باتجاه المواطنين الذين تجمهروا في نهاية الشارع، وتعتدي عليهم بالقنابل المسيلة للدموع، ليلجأ عدد منهم إلى الشوارع الجانبية المؤدية إلى رابعة.

خلال توجههم إلى الشارع، تحلق المروحيات التابعة لوزارة الداخلية بشكل أكثر انخفاضاً، وتقترب بدرجة كبيرة من المباني، ليقول أحدهم "خلوا بالكم ما حدش يصور، الطيارات دي متابعانا وهيطخوا اللي هيصور".

أغلب العمارات بالمنطقة بدت خاوية من السكان، كأن المنطقة أشبه بساحة حرب، عدا عدد منهم أطل من الشرفة ليتابع ما يجري وقد بدت على وجهه الفرحة!

في الطريق للميدان

بالقرب من شارع أحمد حسني المؤدي لشارع الطيران، بدأت تظهر عدة سيارات "ملاكي" تنقل جرحى، وعدد من المواطنين وجوههم مغطاة بمادة بيضاء اللون للحماية من أثر القنابل المسيلة للدموع، يقولون "محدش يدخل من هنا.. اللي بيدخل بيتعجن".

أصوات الأسلحة الآلية، والرصاص وأصوات انفجارات غير معروف مصدرها، تزداد حدتها بدخول شارع أحمد حسني الذي كان به العشرات من المواطنين، علموا بفض الاعتصام وقرروا التوجه إلى الميدان.

شحذ الهمم

"حسبنا الله ونعم الوكيل"، يتعالى الهتاف على مشارف شارع سيباويه المؤدي لميدان رابعة حيث مقر الاعتصام، تتناثر الحجارة في كل مكان، رائحة الحريق، والغاز المسيل للدموع أكثر قوة. سيارات محترقة على جانب الشارع، وأصوات أسلحة تعلو شيئاً فشيئاً، وتتناثر بقع الدم في كل مكان.

كل ذلك ومكبرات الصوت التي استخدمها بعض المعتصمين للاستغاثة بالأطباء، تشعرك أنك في حرب بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

أعضاء لجان التأمين في شارع سيباويه استقبلوا الوافدين للميدان بعلامات النصر، ورددوا "ربنا هينصر المستضعفين إن شاء الله، اصبروا، اثبتوا".

على بعد خطوات من لجنة التأمين، وقفت فتيات في شرفة أحد المنازل يهتفن "الله أكبر.. الله أكبر"، شاركتهن سيدة خمسينية العمر، أتت لتوها لتشارك المعتصمين في تلك اللحظات لتهتف معهم "لا إله إلا الله ... إسلامية إسلامية ... رغم أنف العلمانية، رغم أنف العسكرية ... ارحل يا سيسي ... مرسي هو رئيسي".

بالقرب من المركز الطبي لرابعة العدوية تشابكت الأصوات، أحدهم يقوم بدق الطبول لشحذ عزائم المعتصمين، وآخرون استخدموا مكبرات الصوت للدعاء، ومعتصمة كانت مهمتها تكسير الطوب للحصول على حجارة صغيرة، ومجموعة أخرى تقوم بتوزيع العصائر والمياه، والكمامات الواقية من الغاز المسيل للدموع على المعتصمين.

"وطي راسك وعدي بسرعة عشان في قناصة فوق العمارات بيضربوا أي حد يعدي من هنا.. وطي راسك وعدي بسرعة"، كانت العبارة التي يرددها الشاب الذي كان يقف بالقرب من مدخل المركز الطبي لرابعة العدوية الذي يقع خلف المسجد.

الدخول للمركز الطبي كان مجازفة، ولم يكن أمام من كان يريد التوجه لساحة الميدان حل غير المرور من ذلك المدخل، فالمنافذ الأخرى لساحة الميدان حاصرتها قوات الأمن؛ وبمجرد دخول المركز تستشعر رائحة أخرى أشد قسوة وهي رائحة الدماء، عشرات الجرحى والحالات الحرجة ما بين الموت والحياة ملقاة في كل مكان.

مخرج المركز من الجهة الأخرى يأخذك لطريق ضيق مؤدٍ لساحة الميدان، لا تجد فيه غير أدوية ومصابين في كل جانب، ومعتصمين يكبرون ويرددون "استغفروا.. كبروا.. الله أكبر من سلاحك يا سيسي"، وعدد آخر يحاول نقل المصابين.

سيدة منقبة حملها أحد المعتصمين، وهو يصرخ لنجدتها بعد أن أصابها القناصة برصاصة في ذراعها الأيمن، بجواره وقف المراسل مايك دين يصور تلك السيدة بكاميرته، قبل أن يعود هو الآخر من داخل ساحة الميدان، محمولاً على الأعناق في ذات المشهد، ولكنه كان هذه المرة جثة هامدة.

هنا كانت المجزرة

ساحة الميدان كانت مغطاة بالحجارة، التي كانت السلاح الوحيد الذي رأيناه في أيدي المعتصمين، وكانت مبللة بسبب المياه التي استخدمها المعتصمون لإطفاء حريق عشرات الخيام، التي اشتعلت بسبب قنابل قوات الأمن.

المعتصمون انشغل كل منهم بشيء، سيدة ترتدي إسدال صلاة كانت تطرق بكل قوتها على "طشت" وتهتف من خلال مكبر صوت "الله أكبر.. يسقط يسقط حكم العسكر". على مقربة منها جلس آخر وسُترته ملطخة بالدماء، يحطم قطعاً من الرصيف للحصول على أكبر قدر من الحجارة. وآخرون انهمكوا في الصلاة والدعاء، وترديد الشهادة.

طلقات الرصاص هذه المرة كان صوتها الأقوى على الإطلاق. تأتي من كل جانب تشعر أنها ستصيبك. أحد المعتصمين والذي كان مصاباً في ساقه اليسرى سأل أحد المارة ظناً منه أنه طبيب "كنت عايز بس حضرتك تبص على رجلي، أنا مصاب بس إصابة خفيفة، ومش عايز أروح المستشفى الميداني لأن فيها حالات أخطر مني"، يبادره الآخر بالنفي "لا أنا مش دكتور"، يرد مبتسما "شكراً".

منصة رابعة حتى تلك اللحظة، الساعة 11:30 صباحاً، مستمرة في ترديد الدعاء والهتاف وسط طلقات الرصاص، "أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. اللهم عليك يا سيسي، ومن عاونه ومكّن له من إرهاب المسلمين وروّع النساء والأطفال".

"الهجوم بدأ من الجهات الأربع. والقناصة صعدوا لأسطح العمارات وأطلقوا الرصاص الحي، والطائرات أيضاً". هذا ما قاله محمد فتحي، أحد المعتصمين الذي أكد أن الهجوم بدأ دون أي سابق إنذار.

بجواره وقف عوض عبد السلام، يغالب دموعه، وقد اكتست ثيابه بالدماء جرّاء نقله للمصابين. يقول "كنت نائماً عندما بدأت المنصة في إيقاظنا عن طريق مكبرات الصوت، وهرولت لساحة الميدان ورأيت أعداداً كبيرة من الجرّافات التي بدأت في إزالة الخيام".

"حسيت إن معدش في أمان وإن الاعتصام هيتفض. وبدأ إطلاق الرصاص، وبدأنا في نقل المصابين للمستشفى الميداني، الذي لم يسلم هو الآخر من قنابل الغاز، وطلقات الرصاص".

بين جثث الشهـداء

أثناء خروجنا من ساحة الميدان مررنا على المركز الإعلامي والمسجد الذي تحول كلاهما لمثوى للجثث والمصابين. إحدى الجثث كانت لشهيد مصاب بطلق ناري في الرأس، وكانت ثمة إصابات أخرى في أماكن متفرقة من أجساد الضحايا.

"بص كده على إيده مكتوب اسمه"؛ قالت إحدى الفتيات التي كانت مهمتها توثيق أسماء الشهداء، حتى يتعرف عليها الأهالي فيما بعد. "محمد عبد الحميد القصاص" هو اسم ذلك الشهيد. وبين تلك الجثث جلس أبو بكر محمد، ليقوم بتغطية الجثامين. غير قادر على نطق كلمة، ولكن عيونه كانت كفيلة بالبوح بكل ما في الحزن والقهر من معنى.

في مسجد رابعة لم يختلف الأمر كثيراً؛ فمئات السيدات والأطفال احتموا به، وعدد منهم أصيب بالاختناق بسبب انقطاع التيار الكهربائي عن المنطقة. لم يكن في وسعهم شيء سوى الدعاء والصلاة "اللهم عليك بمن قتل ومَن حرّض على القتل".

دلالات

ذات صلة

الصورة
الدرس انتهى لموا الكراريس

منوعات

أحيا مصريون وعرب على مواقع التواصل الذكرى الـ54 لمذبحة مدرسة بحر البقر التي قصفها الاحتلال الإسرائيلي يوم 8 إبريل/نيسان عام 1970 في مدينة الحسينية.
الصورة
المؤرخ أيمن فؤاد سيد (العربي الجديد)

منوعات

في حواره مع " العربي الجديد"، يقول المؤرخ أيمن فؤاد سيد إنه لا يستريح ولا يستكين أمام الآراء الشائعة، يبحث في ما قد قتل بحثاً لينتهي إلى خلاصات جديدة
الصورة
مئات يترقبون انتشال المساعدات على شاطئ بحر غزة (محمد الحجار)

مجتمع

يواصل الفلسطينيون في قطاع غزة ملاحقة المساعدات القليلة التي تصل إلى القطاع، وبعد أن كانوا يلاحقون الشاحنات، أصبحوا أيضاً يترقبون ما يصل عبر الإنزال الجوي.
الصورة

سياسة

نقلت وكالة "رويترز"، اليوم الجمعة، عن أربعة مصادر أن مصر بدأت تمهيد منطقة على الحدود مع قطاع غزة يمكن استخدامها لإيواء لاجئين فلسطينيين.