09 يوليو 2015
منظمة التحرير الفلسطينية ... ماضيها وراهنها وإنقاذها الغائب
عندما أنشئت منظمة التحرير الفلسطينية، قبل خمسين عاماً، جوبهت بوجوم وترقب وتشكيك وحذر، من فلسطينيين كثيرين ممن كانوا يعملون على الانتظام في مجموعات وتنظيمات فلسطينية وقومية، هدفها تنظيم الشباب الفلسطيني للعمل من أجل تحرير فلسطين. فقد أنشئت المنظمة بدعوة من القمة العربية الأولى في القاهرة في 13/1/1964، (لإنشاء هيئة فلسطينية لإبراز الكيان الفلسطيني). وبالفعل، تلقفت شخصيات سياسية فلسطينية، تعمل في الحقل السياسي الفلسطيني والعربي (أبرزهم أحمد الشقيري) الدعوة والتكليف من القمة، وسارعوا إلى عقد أول مؤتمر وطني فلسطيني، ضم عشرات من الشخصيات الفلسطينية، الممثلة للفلسطينيين في أماكن وجودهم المختلفة (عقد في القدس الشرقية في 28/5/1964، واعتبر عقده لاحقاً بمثابة الدورة الأولى للمجلس الوطني الفلسطيني، أو الدورة التأسيسية للمجلس والمنظمة)، وأعلن في ختامه عن قيام المنظمة، والمصادقة على ميثاقها ونظامها الأساسي والداخلي، وتم انتخاب الشقيري رئيساً للجنتها التنفيذية.
وقرر المؤتمرون اعتبار أن المنظمة وحدها تملك حق تمثيل الفلسطينيين وتنظيمهم، والنطق باسمهم. وبعد أشهر، وتحديداً ما بين الخامس والحادي عشر من سبتمبر/أيلول 1964، عقد في الإسكندرية مؤتمر القمة العربية الثاني الذي وافق على قيام المنظمة. وجوبه قرار تأسيس المنظمة بالحذر والشكوك من التنظيمات الفلسطينية النامية آنذاك (فتح أولاً)، والتي كانت تستعد لبدء عمليات مسلحة لتحرير فلسطين، واعتبرته محاولة من القادة العرب لقطع الطريق على هذه التنظيمات، ولمنع الفلسطينيين من تنظيم أنفسهم، والإمساك بقرارهم عبر إنشاء المنظمة والسيطرة على قيادتها وقراراتها.
حذر وشكوك أولى
وبالفعل، ظل الحذر والتشكيك مخيماً مع انطلاقة العمل المسلح الفلسطيني في بداية 1965، على الرغم من الخلاف الذي سرعان ما برز بين قيادة المنظمة والقيادة الأردنية، بسبب سعي المنظمة إلى تنظيم الفلسطينيين في الأردن والعمل في أوساطهم سياسياً وعسكرياً، الأمر الذي ينقض قرار مؤتمر أريحا في 1949 ضم الضفة الغربية إلى الأردن، ويهدد بإحداث شرخ كبير بين الفلسطينيين والأردنيين في المملكة، ويعرض العرش الأردني للمخاطر.
في عدوانها عام 1967، احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، واستولت بذلك على الأراضي التي كانت المنظمة والفصائل المسلحة الناشئة تريد أن تنطلق منها لتحرير فلسطين، وفرضت إسرائيل عليهما العمل من خارجهما. ونظراً لاستحالة الوصول إلى قطاع غزة، بسبب احتلال إسرائيل سيناء بالكامل، وجدت المنظمة والفصائل نفسها مضطرة للعمل على الساحة الأردنية، ومنها باتجاه الضفة الغربية وفلسطين المحتلة عام 1948، وبالتالي، تحويل الأردن إلى أرض – قاعدة، ومنطلق للعمل العسكري والسياسي الفلسطيني.
قاد هذا الأمر إلى توترات واشتباكات سياسية وعسكرية بين الفصائل الفلسطينية والجيش الأردني، خصوصاً بعد أن تمكنت الفصائل من الدخول إلى المنظمة، وتسلمت قيادتها (ياسر عرفات) في الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني، في القاهرة صيف 1968، وتوزعت مقاعده فيما بينها. وبدا واضحاً أن العلاقات بين القيادتين الأردنية والفلسطينية تزداد توتراً، وفي طريقها إلى الانفجار، بعد أن أصبحت المنظمة إطاراً قيادياً للفصائل الفلسطينية، وحازت على تأييد ودعم شعبي ورسمي، فلسطيني وعربي، واسع النطاق، وبات تمركزها في الأردن بكل هذا الثقل (بدت عمان كأنها عاصمة للمنظمة) مصدر خطر جدي على الحكم الأردني، ما دفعه إلى اتخاذ قراره بإخراج قيادات المنظمة والفصائل والمقاتلين الفلسطينيين من الأردن، وهو ما حصل في أحداث سبتمبر/أيلول 1970.
بخروجها من الأردن، ابتعدت منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية عن الضفة الغربية، بما تمثله من أرض فلسطينية محتلة عام 1967، وبما فيها من كتلة ديموغرافية فلسطينية، وابتعدت عن كتلة اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، وهي الكتلة الأكبر للاجئين خارج فلسطين، واضطرت للانتقال إلى لبنان، قيادة ومقاتلين، حيث أصبح الجنوب اللبناني بديلاً للأغوار في الأردن، وأصبحت بيروت، مع تتالي الأحداث، عاصمة للعمل السياسي والعسكري والإعلامي الفلسطيني.
البرنامج المرحلي
بعد حرب أكتوبر/تشرين أول 1973، ومع ابتعاد العرب عن هدف تحرير فلسطين وتحرير ما احتلته إسرائيل عام 1967 بالقوة العسكرية، وإقراراهم مبدأ التسوية، والسعي إلى استعادة ما احتل عام 1967، بالمفاوضات السلمية، ومع إقرار المنظمة البرنامج المرحلي، انسجاماً مع المتغير العربي، أي الابتعاد (أو التخلي) عن هدف تحرير فلسطين، واعتماد مبدأ الأولوية لاستعادة الضفة والقطاع عبر المفاوضات، ومع اعتراف القمة العربية في الرباط عام 1974 بالمنظمة ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، ووصول رئيس المنظمة، ياسر عرفات، إلى الأمم المتحدة، وحيازتها صفة عضو مراقب فيها، وبدء صدور قرارات عن الأمم المتحدة (الجمعية العامة) تقر بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وصلت قوة المنظمة ومكانتها إلى الذروة، وتمكنت، مع حلفائها من اللبنانيين، من جعل بيروت الغربية بمثابة عاصمة فلسطينية، تستقر فيها قيادات المنظمة ومكاتبها، وتستقبل فيها وفوداً رسمية ودبلوماسية عربية وأجنبية.
وقد شنت إسرائيل أكثر من عدوان للقضاء على المنظمة، وقواعدها العسكرية في الجنوب اللبناني، إلى أن كان الغزو الذي قامت به في 1982، بهدف التخلص من المنظمة قيادة وقواتاً واقتلاعها من لبنان، وهو (الاقتلاع) ما كان بإجبار قيادة المنظمة وقواتها ومؤسساتها على مغادرة بيروت، فذهبت قيادة المنظمة وكوادرها إلى تونس (العاصمة الجديدة للمنظمة)، وتوزع المقاتلون على عدد من الدول العربية، منها اليمن والسودان.
كان الخروج من لبنان 1982، والانشقاق في حركة فتح 1983، وتالياً في المنظمة، وبدء تحركات هادفة إلى استغلال عزل مصر، وتضعضع مكانة المنظمة، بمثابة تهديد فعلي بأن المنظمة توشك أن تنهار. وما حال دون ذلك هو اندلاع انتفاضة الحجارة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1987، والتي قدمت للمنظمة وقيادتها أرضاً فلسطينية لتقف عليها، وشعباً منتفضاً وملتفاً حولها وينتظر قيادتها له، مما مكّنها لاحقاً من المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام في نهاية 1991، ومن الاندفاع، لاحقاً، في مفاوضات سرية مع إسرائيل، والتوقيع على اتفاق أوسلو (إعلان المبادئ) 1993، والذي أرادته قيادة المنظمة اتفاقاً أولياً، على أمل أن يليه اتفاق سلام يقود إلى انسحاب إسرائيلي كامل من الضفة والقطاع وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، بينما أرادته إسرائيل فخاً للقيادة الفلسطينية، لاستنزافها واستنزاف كامل الطاقات الفلسطينية، بما فيها المنظمة، من دون أن يتمكن الفلسطينيون من الوصول إلى تحقيق ما عرف بالهدف المرحلي.
"أوسلو" وما بعده
لعل أخطر ما تم عند توقيع اتفاق أوسلو هو توقيع الاعتراف المتبادل بين المنظمة وإسرائيل، والذي اعترفت به المنظمة بإسرائيل، من دون أن تعين هذه حدوداً لها (لا تزال ترفض ذلك) واعترفت فيه إسرائيل بالمنظمة ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني، من دون أن تعترف لهذا الشعب بأي من حقوقه الوطنية. ثم جاء ما هو أخطر بكثير، عندما اندفعت قيادة المنظمة، بعد انسحابات إسرائيلية جزئية (إعادة انتشار) في الضفة والقطاع، إلى عقد الدورة الحادية والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني في غزة (وقوات الاحتلال ما زالت في القطاع)، بحضور الرئيس الأميركي في حينه، بيل كلينتون، وتم خلالها إلغاء وتعديل معظم مواد الميثاق الوطني الفلسطيني، المكون الأساسي لبرنامج المنظمة وهيكليتها وبوصلة العمل الوطني الفلسطيني بكل أشكاله.
وبذلك الإجراء المستعجل، تخلت قيادة منظمة التحرير عن الميثاق الذي استعجلت تقديمه قرباناً لوعد أو أمل لم يتحقق حتى الآن، على الرغم من مضي أكثر من 18 عاماً على تعديله و21 عاماً على توقيع اتفاق أوسلو. وبقدر ما كان تعديل الميثاق بمثابة تخلّ عنه، كان أيضاً تخلياً عن المنظمة، وخروجاً منها، ووضعاً لها في ثلاجة موتى. منذ ذلك التاريخ، امتنعت قيادة المنظمة (أصبح القسم الأكبر والأهم منها قيادة للسلطة الوطنية الفلسطينية) عن عقد أي اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني، مكتفية بعقد دورة استثنائية عام 2009 (بمن أمكن حضوره) لانتخاب لجنة تنفيذية جديدة، ورئيس جديد لها بعد وفاة الرئيس عرفات، واكتفت، بين الفينة والأخرى، بعقد اجتماع للجنة التنفيذية للمنظمة، للمصادقة على هذا القرار أو ذاك من قرارات السلطة الفلسطينية، وتغطية اضطراراتها أو تنازلاتها الاضطرارية.
وتم عملياً، منذ ذلك التاريخ، تغييب المنظمة بشكل متعمد، وهو تغييب أشبه بالإماتة المدروسة، أو المقصودة تارة، بذريعة أن التطورات في الضفة والقطاع لا تسمح بعقد المجلس الوطني، وتارة بذريعة الخلافات والانقسامات بين حركة فتح ومن يواليها في الضفة وحركة حماس ومن يواليها في القطاع، وتارة بذريعة رفض دول عربية عقد المجلس الوطني على أراضيها.
يمكن القول، اليوم، إن الذين شككوا بالغاية من قرار القمة العربية تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، ثم سارعوا بعد مرور أقل من أربع سنوات على تأسيسها إلى دخولها، وتسلم قيادتها، وتوازع مغانمها وفق كوتا فصائلية، هم أنفسهم الذين ابتعدوا عن هدف تحرير فلسطين، والاكتفاء بدولة في الضفة والقطاع، وهم الذين سارعوا إلى الاعتراف بإسرائيل، في مقابل اعتراف إسرائيل بالمنظمة، وسارعوا، بعدها، إلى شطب وتعديل معظم ما في الميثاق الوطني، وهم الذين امتنعوا عن الدعوة إلى عقد أي دورة للمجلس الوطني الفلسطيني، منذ 1996 وحتى اليوم، على الرغم من أنهم تمكنوا من عقد مؤتمر عام لحركة فتح، قبل أعوام، في رام الله.
دعت حركتا فتح وحماس، في اتفاقات المصالحة المتعددة التي وقعت في أكثر من عاصمة عربية، إلى تفعيل المنظمة، ونص الاتفاق الجديد بينهما (اتفاق مخيم الشاطئ) على أن (يصار إلى عقد لجنة تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، في غضون خمسة أسابيع من تاريخ توقيع الاتفاق)، إلا أنه لم يفعل أي شيء، على الرغم من اقتراب هذه الأسابيع من نهايتها. ولعل هذا الأمر هو الأخير في سلم الأولويات للحركتين. فهو غير ملح أو مستعجل لأي منهما، خصوصاً أن الحركتين لم تحددا أسس وآلية تفعيل وتطوير المنظمة التي تحتاج، الآن، إلى إعادة تعريف وتأسيس وتجديد للمنطلقات والأهداف والتشابكات القائمة في الواقع الفلسطيني، بمختلف مستويات وهيئاته وبرامجه واستراتيجياته.
وهكذا أمر يجب أَلا تقرره حركتا فتح وحماس وحدهما، ولا حتى بمشاركة الفصائل الأخرى، التابعة والموالية لهذه أو تلك، بل يجب أن تشارك فيه شخصيات وهيئات، تمثل كل الشعب الفلسطيني، في كل أماكن وجوده، بعيداً عن الكوتا الفصائلية المعهودة، خصوصاً بعد أن باتت فصائل فلسطينية في عداد الموتى، وبعد نشوء أجيال فلسطينية جديدة (كفاءات وقيادات وكوادر وخبرات)، أجيال ما بعد تأسيس المنظمة، وما بعد إقرار البرنامج المرحلي، وما بعد "أوسلو"، أجيال تطمح إلى التجديد الفلسطيني الشامل.
وقرر المؤتمرون اعتبار أن المنظمة وحدها تملك حق تمثيل الفلسطينيين وتنظيمهم، والنطق باسمهم. وبعد أشهر، وتحديداً ما بين الخامس والحادي عشر من سبتمبر/أيلول 1964، عقد في الإسكندرية مؤتمر القمة العربية الثاني الذي وافق على قيام المنظمة. وجوبه قرار تأسيس المنظمة بالحذر والشكوك من التنظيمات الفلسطينية النامية آنذاك (فتح أولاً)، والتي كانت تستعد لبدء عمليات مسلحة لتحرير فلسطين، واعتبرته محاولة من القادة العرب لقطع الطريق على هذه التنظيمات، ولمنع الفلسطينيين من تنظيم أنفسهم، والإمساك بقرارهم عبر إنشاء المنظمة والسيطرة على قيادتها وقراراتها.
حذر وشكوك أولى
وبالفعل، ظل الحذر والتشكيك مخيماً مع انطلاقة العمل المسلح الفلسطيني في بداية 1965، على الرغم من الخلاف الذي سرعان ما برز بين قيادة المنظمة والقيادة الأردنية، بسبب سعي المنظمة إلى تنظيم الفلسطينيين في الأردن والعمل في أوساطهم سياسياً وعسكرياً، الأمر الذي ينقض قرار مؤتمر أريحا في 1949 ضم الضفة الغربية إلى الأردن، ويهدد بإحداث شرخ كبير بين الفلسطينيين والأردنيين في المملكة، ويعرض العرش الأردني للمخاطر.
في عدوانها عام 1967، احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، واستولت بذلك على الأراضي التي كانت المنظمة والفصائل المسلحة الناشئة تريد أن تنطلق منها لتحرير فلسطين، وفرضت إسرائيل عليهما العمل من خارجهما. ونظراً لاستحالة الوصول إلى قطاع غزة، بسبب احتلال إسرائيل سيناء بالكامل، وجدت المنظمة والفصائل نفسها مضطرة للعمل على الساحة الأردنية، ومنها باتجاه الضفة الغربية وفلسطين المحتلة عام 1948، وبالتالي، تحويل الأردن إلى أرض – قاعدة، ومنطلق للعمل العسكري والسياسي الفلسطيني.
قاد هذا الأمر إلى توترات واشتباكات سياسية وعسكرية بين الفصائل الفلسطينية والجيش الأردني، خصوصاً بعد أن تمكنت الفصائل من الدخول إلى المنظمة، وتسلمت قيادتها (ياسر عرفات) في الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني، في القاهرة صيف 1968، وتوزعت مقاعده فيما بينها. وبدا واضحاً أن العلاقات بين القيادتين الأردنية والفلسطينية تزداد توتراً، وفي طريقها إلى الانفجار، بعد أن أصبحت المنظمة إطاراً قيادياً للفصائل الفلسطينية، وحازت على تأييد ودعم شعبي ورسمي، فلسطيني وعربي، واسع النطاق، وبات تمركزها في الأردن بكل هذا الثقل (بدت عمان كأنها عاصمة للمنظمة) مصدر خطر جدي على الحكم الأردني، ما دفعه إلى اتخاذ قراره بإخراج قيادات المنظمة والفصائل والمقاتلين الفلسطينيين من الأردن، وهو ما حصل في أحداث سبتمبر/أيلول 1970.
بخروجها من الأردن، ابتعدت منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية عن الضفة الغربية، بما تمثله من أرض فلسطينية محتلة عام 1967، وبما فيها من كتلة ديموغرافية فلسطينية، وابتعدت عن كتلة اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، وهي الكتلة الأكبر للاجئين خارج فلسطين، واضطرت للانتقال إلى لبنان، قيادة ومقاتلين، حيث أصبح الجنوب اللبناني بديلاً للأغوار في الأردن، وأصبحت بيروت، مع تتالي الأحداث، عاصمة للعمل السياسي والعسكري والإعلامي الفلسطيني.
البرنامج المرحلي
بعد حرب أكتوبر/تشرين أول 1973، ومع ابتعاد العرب عن هدف تحرير فلسطين وتحرير ما احتلته إسرائيل عام 1967 بالقوة العسكرية، وإقراراهم مبدأ التسوية، والسعي إلى استعادة ما احتل عام 1967، بالمفاوضات السلمية، ومع إقرار المنظمة البرنامج المرحلي، انسجاماً مع المتغير العربي، أي الابتعاد (أو التخلي) عن هدف تحرير فلسطين، واعتماد مبدأ الأولوية لاستعادة الضفة والقطاع عبر المفاوضات، ومع اعتراف القمة العربية في الرباط عام 1974 بالمنظمة ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، ووصول رئيس المنظمة، ياسر عرفات، إلى الأمم المتحدة، وحيازتها صفة عضو مراقب فيها، وبدء صدور قرارات عن الأمم المتحدة (الجمعية العامة) تقر بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وصلت قوة المنظمة ومكانتها إلى الذروة، وتمكنت، مع حلفائها من اللبنانيين، من جعل بيروت الغربية بمثابة عاصمة فلسطينية، تستقر فيها قيادات المنظمة ومكاتبها، وتستقبل فيها وفوداً رسمية ودبلوماسية عربية وأجنبية.
وقد شنت إسرائيل أكثر من عدوان للقضاء على المنظمة، وقواعدها العسكرية في الجنوب اللبناني، إلى أن كان الغزو الذي قامت به في 1982، بهدف التخلص من المنظمة قيادة وقواتاً واقتلاعها من لبنان، وهو (الاقتلاع) ما كان بإجبار قيادة المنظمة وقواتها ومؤسساتها على مغادرة بيروت، فذهبت قيادة المنظمة وكوادرها إلى تونس (العاصمة الجديدة للمنظمة)، وتوزع المقاتلون على عدد من الدول العربية، منها اليمن والسودان.
كان الخروج من لبنان 1982، والانشقاق في حركة فتح 1983، وتالياً في المنظمة، وبدء تحركات هادفة إلى استغلال عزل مصر، وتضعضع مكانة المنظمة، بمثابة تهديد فعلي بأن المنظمة توشك أن تنهار. وما حال دون ذلك هو اندلاع انتفاضة الحجارة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1987، والتي قدمت للمنظمة وقيادتها أرضاً فلسطينية لتقف عليها، وشعباً منتفضاً وملتفاً حولها وينتظر قيادتها له، مما مكّنها لاحقاً من المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام في نهاية 1991، ومن الاندفاع، لاحقاً، في مفاوضات سرية مع إسرائيل، والتوقيع على اتفاق أوسلو (إعلان المبادئ) 1993، والذي أرادته قيادة المنظمة اتفاقاً أولياً، على أمل أن يليه اتفاق سلام يقود إلى انسحاب إسرائيلي كامل من الضفة والقطاع وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، بينما أرادته إسرائيل فخاً للقيادة الفلسطينية، لاستنزافها واستنزاف كامل الطاقات الفلسطينية، بما فيها المنظمة، من دون أن يتمكن الفلسطينيون من الوصول إلى تحقيق ما عرف بالهدف المرحلي.
"أوسلو" وما بعده
لعل أخطر ما تم عند توقيع اتفاق أوسلو هو توقيع الاعتراف المتبادل بين المنظمة وإسرائيل، والذي اعترفت به المنظمة بإسرائيل، من دون أن تعين هذه حدوداً لها (لا تزال ترفض ذلك) واعترفت فيه إسرائيل بالمنظمة ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني، من دون أن تعترف لهذا الشعب بأي من حقوقه الوطنية. ثم جاء ما هو أخطر بكثير، عندما اندفعت قيادة المنظمة، بعد انسحابات إسرائيلية جزئية (إعادة انتشار) في الضفة والقطاع، إلى عقد الدورة الحادية والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني في غزة (وقوات الاحتلال ما زالت في القطاع)، بحضور الرئيس الأميركي في حينه، بيل كلينتون، وتم خلالها إلغاء وتعديل معظم مواد الميثاق الوطني الفلسطيني، المكون الأساسي لبرنامج المنظمة وهيكليتها وبوصلة العمل الوطني الفلسطيني بكل أشكاله.
وبذلك الإجراء المستعجل، تخلت قيادة منظمة التحرير عن الميثاق الذي استعجلت تقديمه قرباناً لوعد أو أمل لم يتحقق حتى الآن، على الرغم من مضي أكثر من 18 عاماً على تعديله و21 عاماً على توقيع اتفاق أوسلو. وبقدر ما كان تعديل الميثاق بمثابة تخلّ عنه، كان أيضاً تخلياً عن المنظمة، وخروجاً منها، ووضعاً لها في ثلاجة موتى. منذ ذلك التاريخ، امتنعت قيادة المنظمة (أصبح القسم الأكبر والأهم منها قيادة للسلطة الوطنية الفلسطينية) عن عقد أي اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني، مكتفية بعقد دورة استثنائية عام 2009 (بمن أمكن حضوره) لانتخاب لجنة تنفيذية جديدة، ورئيس جديد لها بعد وفاة الرئيس عرفات، واكتفت، بين الفينة والأخرى، بعقد اجتماع للجنة التنفيذية للمنظمة، للمصادقة على هذا القرار أو ذاك من قرارات السلطة الفلسطينية، وتغطية اضطراراتها أو تنازلاتها الاضطرارية.
وتم عملياً، منذ ذلك التاريخ، تغييب المنظمة بشكل متعمد، وهو تغييب أشبه بالإماتة المدروسة، أو المقصودة تارة، بذريعة أن التطورات في الضفة والقطاع لا تسمح بعقد المجلس الوطني، وتارة بذريعة الخلافات والانقسامات بين حركة فتح ومن يواليها في الضفة وحركة حماس ومن يواليها في القطاع، وتارة بذريعة رفض دول عربية عقد المجلس الوطني على أراضيها.
يمكن القول، اليوم، إن الذين شككوا بالغاية من قرار القمة العربية تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، ثم سارعوا بعد مرور أقل من أربع سنوات على تأسيسها إلى دخولها، وتسلم قيادتها، وتوازع مغانمها وفق كوتا فصائلية، هم أنفسهم الذين ابتعدوا عن هدف تحرير فلسطين، والاكتفاء بدولة في الضفة والقطاع، وهم الذين سارعوا إلى الاعتراف بإسرائيل، في مقابل اعتراف إسرائيل بالمنظمة، وسارعوا، بعدها، إلى شطب وتعديل معظم ما في الميثاق الوطني، وهم الذين امتنعوا عن الدعوة إلى عقد أي دورة للمجلس الوطني الفلسطيني، منذ 1996 وحتى اليوم، على الرغم من أنهم تمكنوا من عقد مؤتمر عام لحركة فتح، قبل أعوام، في رام الله.
دعت حركتا فتح وحماس، في اتفاقات المصالحة المتعددة التي وقعت في أكثر من عاصمة عربية، إلى تفعيل المنظمة، ونص الاتفاق الجديد بينهما (اتفاق مخيم الشاطئ) على أن (يصار إلى عقد لجنة تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، في غضون خمسة أسابيع من تاريخ توقيع الاتفاق)، إلا أنه لم يفعل أي شيء، على الرغم من اقتراب هذه الأسابيع من نهايتها. ولعل هذا الأمر هو الأخير في سلم الأولويات للحركتين. فهو غير ملح أو مستعجل لأي منهما، خصوصاً أن الحركتين لم تحددا أسس وآلية تفعيل وتطوير المنظمة التي تحتاج، الآن، إلى إعادة تعريف وتأسيس وتجديد للمنطلقات والأهداف والتشابكات القائمة في الواقع الفلسطيني، بمختلف مستويات وهيئاته وبرامجه واستراتيجياته.
وهكذا أمر يجب أَلا تقرره حركتا فتح وحماس وحدهما، ولا حتى بمشاركة الفصائل الأخرى، التابعة والموالية لهذه أو تلك، بل يجب أن تشارك فيه شخصيات وهيئات، تمثل كل الشعب الفلسطيني، في كل أماكن وجوده، بعيداً عن الكوتا الفصائلية المعهودة، خصوصاً بعد أن باتت فصائل فلسطينية في عداد الموتى، وبعد نشوء أجيال فلسطينية جديدة (كفاءات وقيادات وكوادر وخبرات)، أجيال ما بعد تأسيس المنظمة، وما بعد إقرار البرنامج المرحلي، وما بعد "أوسلو"، أجيال تطمح إلى التجديد الفلسطيني الشامل.