مريم في إيطاليا.. قصّة لها ما بعدها

مريم في إيطاليا.. قصّة لها ما بعدها

26 يوليو 2014

مريم يحيى يستقبلها مسؤول إيطالي في مطار روما (24يوليو/أ.ف.ب)

+ الخط -

في كل صباح، تقدم الدولة السودانية ما يؤكد أنها الدولة الأولى في العالم في صناعة الضجيج السياسي. فقد نشرت الصحافة الإيطالية صورة لمريم يحيى إبراهيم، السودانية التي أثارت قضيتها ضجة كبرى، وحكم عليها بالردة عن الإسلام والإعدام، وقضت وقتاً في السجن، وضعت فيه مولودها، ثم توالت الأحداث، وأفرج عنها، وأخيراً، سحبت أسرتها القضية التي كانت قد رفعتها في المحاكم ضد ابنتها الطبيبة، وهي القضية التي أوجبت كل هذا الضجيج المحلي والعالمي.
صورة مريم الحديثة بثتها وسائل الإعلام في إيطاليا وهي تسير بصحبة طفليها، وتغادر الطائرة الإيطالية في مطار شيامبينو في روما، بصحبة نجليها، يرافقهم لابولو بيستيلي، نائب وزير الشؤون الخارجية الإيطالي. وهي صورة مختلفة جداً عن الصور السابقة لها، في سجن أم درمان مكبلةً بالقيد الحديدي الثقيل، وبجوارها طفلها الصغير، ثم صورتها، وقد وضعت مولودها الجديد في السجن.
فاجأت الصورة الجديدة الشارع السوداني، وأعادت فتح القضية على مواقع التواصل الاجتماعي، تهكماً وسخريةً من حال الدولة التي باتت تستمرئ الضجيج والفضائح، عالمياً.  سافرت مريم بعيداً عن الأضواء، وواضح أن الأمر جرى ترتيبه، وبشكل منسق، وفي سرية تامة، شرطاً للأجهزة الأمنية السودانية، لإغلاق الملف نهائياً بمغادرة مريم. لكن وصولها إلى إيطاليا، محطتها الأولى في رحلة الخروج "المنتصر" من السودان إلى حاضرة الفاتيكان، أمر له مدلوله ومغزاه. فالمؤكد أن قضية هذه المرأة سيتم تسليط الضوء عليها مجدداً، وتصبح محط أنظار العالم المسيحي كله، ومن أعلى منابره في الفاتيكان. ومن ثم سيتبعها ضجيجٌ، من نوع آخر، سيطغى ويعلو بالقضية من جديد. ولكن، ربما من باب تسليط الضوء على أوضاع مسيحيي السودان بشكل عام، وهو ملف شائك مسكوت عنه.  والمؤكد أن مغادرتها السودان بهذه السرية، ثم الإضاءة على وصولها إلى روما، وظهورها في استقبال رسمي، مثّله نائب وزير الشؤون الخارجية الإيطالي، يوحي بأن قصة مريم ينتظرها فاصل جديد، بدأ من على شاشات التلفزيونات الإيطالية.
وأوضاع المسيحيين في السودان باتت أمراً يؤرق الكنيسة المحلية والفاتيكان. ومنذ الوهلة الأولى، كان مجلس الكنائس السوداني يدخل طرفاً أصيلاً في الدفاع عن مريم. وأصدر المجلس بياناً رفض فيه الحكم الذي أصدرته محكمة الجنايات بالردة والزنا، واعتبره

"اضطهاداً واضحاً اًو مباشراً واستهدافاً ممنهجاً للمسيحيين في السودان". وفي تطور لافت، في أمر السجال القائم، أصلاً، بين الحكومة السودانية والمؤسسات الكنسية، جاء انتقاد مجلس الكنائس السوداني، أخيراً، سلطات الخرطوم، لمنعها بناء أي كنائس جديدة في البلاد. وشجب الأمين العام للمجلس، كوري الرملي، قرار الحكومة إزالة كنيسة في الخرطوم، رافضاً قول وزير الإرشاد والأوقاف الدينية السوداني إن هناك عدداً كافياً من الكنائس في السودان للمسيحيين، وليست هناك حاجة لكنائس جديدة. ثم صدر تنديد آخر من مطران الكنيسة الأسقفية السودانية، المطران أندود آدم النيل، بشأن معاملة المسيحيين في السودان، وقوله، في مقابلة صحافية "إن الكنيسة ورعايها ظلوا محل اضطهاد وإقصاء، منذ أمد بعيد من عمر الإنقاذ (حكم البشير)". وفي الواقع، ظلت الكنيسة تبني جبل مخاوفها منذ العام 2011، عقب انفصال جنوب السودان، إذ أعلن الرئيس عمر البشير، وفي خطاب شهير في مدينة القضارف في شرق السودان أن "المسيحيين انفصلوا مع جنوب السودان"، بمعنى أن السودان عاد عروبياً صرفاً. هذا على الرغم من أن عدد المسيحيين في السودان، اليوم، وعقب انفصال الجنوب، وفقاً لتقديرات كنسية، كما يقول المطران أندود، يشكلون نسبة 20%. ويتركز معظم المسيحيين في العاصمة القومية، الخرطوم، تليها ولاية جنوب كردفان، ثم النيل الأزرق، الولاية الشمالية، ودارفور، وأعداد أقل في ولايات البحر الأحمر وشمال كردفان.
ويلاحظ أن الوجود الكثيف للمسيحيين يتركز في المناطق التي تشهد قتالاً بين الحكومة والحركات المسلحة المعارضة لها، وخصوصاً في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، لكن كلمات عمر البشير التي لم تكن محسوبة العواقب، أحدثت زلزالاً في السودان، ووسط المسيحيين بالذات. وكأي زلزال، كانت لكلماته توابعها. فبتأثير واضح من خطاب الرئيس، عمر البشير، شهد السودان عدة أحداث غير مسبوقة في تاريخ السودان المعاصر، حيث أحرق متطرفون كنيسةً في مدينة كادوقلي، غربي السودان، ثم مدرسة الجريف، غرب اللاهوتية في الخرطوم، وتم هدم الكنيسة في الحاج يوسف، ثم إغلاق مدارس كمبوني، إحدى أهم المرافق التعليمية التاريخية في السودان، ومنعت تأشيرات المبشرين من بريطانيا مما يُعرف بالبعثات الإرسالية.  وتوج الأمر بقرار الأوقاف السودانية بمنع بناء كنائس جديدة. 
فهل يكون وجود مريم قضية حيّة تمشي بين الناس في إيطاليا، وفي حاضرة الفاتيكان، ووسط زخم إعلامي أوروبي قابل لاتّساع دائرته، محطة أخرى لرفع مستوى الضجيج الذي افتعلته الحكومة السودانية، والدخول في غمار جولة جديدة أوسع نطاقاً، تدخل فيها الكنيسة الكاثوليكية طرفاً؟ وهل ستصمد حكومة السودان التي خسرت الضجيج الذي افتعلته بشأن قضية مريم، لتواجه عاصفة أوروبية جديدة، بدعوى حماية حقوق المسيحيين في السودان، وضمان حرية معتقداتهم؟ هذا ما ستكشف عنه تبعات قضية مريم أوروبياً.
  

 

 
 
 
 
 
 
 
 


 
 

 

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.