يتصاعد القلق في الجزائر من الخطوة التي تسعى مصر للذهاب إليها، والمتمثلة بتسليح القبائل الليبية والزجّ بها في قلب الأزمة. ففيما تسعى الجزائر لأن يكون للقبائل دور في إنتاج وصياغة الحلّ عبر إشراكها في المساعي المؤدية لذلك واستغلال دورها المجتمعي في الضغط على كافة الأطراف الرئيسة في الأزمة، لإسكات صوت المدافع والجلوس إلى طاولة المفاوضات، تدفع القاهرة بالقبائل للتحول إلى عامل تعقيد وإضفاء مزيد من العسكرة على الأزمة، من دون تقدير المخاطر المستقبلية على ليبيا ودول الجوار جراء سيناريو كهذا، لا سيما في ظلّ عوامل الترابط بين القبائل الممتدة داخل عدد من الدول بما فيها الجزائر.
وبات الموقف الجزائري بشأن ليبيا على نقيض تام من الموقف المصري، ولم يتوانَ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في آخر حوار تلفزيوني له، عن توجيه إدانة شديدة للخطوة المصرية باتجاه تسليح القبائل في ليبيا ودفعها للصراع العسكري، معتبراً أنّ مثل هذه المبادرات الفردية "ستحول ليبيا إلى صومال جديد". وقال تبون: "شاهدنا أخيراً محاولة إقحام القبائل الليبية في الصراع، وهذا أمر خطير"، مضيفاً أنّ "تسليح القبائل لن يجعل من ليبيا سورية جديدة، ولكنه سيحولها إلى صومال جديد". وبدا الرئيس الجزائري معبراً عن موقف إجماع يسود في الجزائر برفض القرارات الأحادية الجانب من قبل مصر في سياق الأزمة الليبية، على غرار خطوة تسليح القبائل. وقال: "لن ندعم أي قرار فردي، لا يمكن أن تتخذ دولة مبادرة منفردة ثمّ تطلب دعماً من الجزائر، هذا غير ممكن، ردنا على من يطلب دعمنا لمبادرته المنفردة هو هل استشرتنا قبل ذلك؟". ويؤشر هذا الموقف إلى رفض الرئاسة الجزائرية استقبال رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح، الذي كان ينوي طلب دعم الجزائر لهذه الخطوة خلال زيارته التي كانت مقررة يومي السبت والأحد الماضيين قبل تأجيلها بشكل مفاجئ.
بات الموقف الجزائري بشأن ليبيا على نقيض تام من الموقف المصري
ولا يحتمل الموقف الجزائري الصريح إزاء الخطوة المصرية أي تفسيرات، إذ باتت الجزائر على دراية تامة بأنّ سياسات ومواقف القاهرة أصبحت عامل تأزيم وعسكرة للصراع، وليست عنصراً للحل وتفكيك خيوط الأزمة، وهو ما يفسّر استبعاد الرئيس الجزائري لمصر من أي مبادرة مشتركة لصياغة حلّ سياسي في الفترة الأخيرة، والاقتصار على مساع مشتركة مع تونس، بعدما ظلّ يردد في وقت سابق أنّ مبادرات الحلّ يجب أن تشمل الجزائر وتونس ومصر.
في السياق، قال الأستاذ والباحث في العلوم السياسية مولود ولد الصديق، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ "تصريحات تبون فيها إدانة مباشرة للطرف المصري الذي باتت خطواته التصعيدية تمثل عنصر تأزيم، وهي تعبير صريح عن عدم رضا عن الأدوار غير السلمية العابثة بأي حل جاد لجمع الفرقاء في ليبيا". ولفت إلى اللقاء الذي تم أخيراً بين عدد من شيوخ القبائل والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بعد دعوة القاهرة لبعض ممثلي قبائل الشرق الليبي، لا سيما قبائل المغاربة والعبيدات في طبرق وبنغازي وقبائل التبو، معتبراً أنّ ذلك "يعني محاولة صريحة للزج بالعنصر القبلي في الصراع الليبي، وهو ما قد يطيل عمر الأزمة".
وحتى الآن، لا تبدو الجزائر متضررة بشكل مباشر من انخراط القبائل في مسعى التسليح، لكون القبائل الليبية التي تتمركز على الحدود مع الجزائر في غات وغدامس تعيش في مناطق غير متوترة من جهة، ولكون الجزائر نفسها استغلت عامل العلاقات الاجتماعية للقبائل الليبية والجزائرية لخلق حالة تعايش سلمي وتعاون اجتماعي وإسناد أمني، لضمان استقرار المنطقة. لكن بالقياس الجغرافي، تبدو المسافة من سرت، وسط ليبيا، إلى الحدود المصرية هي نفسها إلى الحدود الجزائرية، وهذا يعني أنّ المخاوف الجزائرية من التداعيات الأمنية للزجّ بالقبائل في مواجهة ليبية - ليبية مشروعة، ناهيك عن أنّ مدّ القبائل بالسلاح قد يفتح سوقاً للأسلحة في منطقة الساحل لصالح الجماعات الإرهابية وشبكات الجريمة المنظمة، إذ لا يوجد أي ضامن لعدم انتقال الأسلحة من القبائل إلى هذه الجماعات.
واعتبر ولد الصديق أنّ "القناعات الجزائرية بشأن خطورة الخطوة المصرية مرتبطة بتجارب وأحداث أمنية سابقة، يُعتقد أنّ العلاقات القبلية الممتدة إلى خارج الحدود لعبت دوراً في صنعها وخلق تهديدات جدية تمسّ الأمن القومي". وقال "الجزائر تخشى من تسليح القبائل، وتوجسها حقيقي وواقعي"، مشيراً إلى حادثة عين أميناس عام 2013، حيث تمكنت جماعة إرهابية مسلحة من عبور الحدود الليبية باتجاه منشأة الغاز بعين أميناس بولاية إليزي، أقصى جنوب شرقي الجزائر، حيث احتجزت هذه الجماعة التابعة للقاعدة مئات الرهائن، وانتهى الأمر بمقتل 32 مسلحاً و23 رهينةً.
مدّ القبائل بالسلاح قد يفتح سوقاً للأسلحة في منطقة الساحل لصالح الجماعات الإرهابية
وأضاف ولد الصديق أنّ "ما تمت الدعوة إليه من قبل مصر هو في نظر صانع القرار الجزائري لن يؤثر على الجزائر وحسب، بل على كامل المنطقة بما فيها مصر. وثمة انزعاج عال المستوى من هذا التصعيد المصري الذي يستند إلى دعم دول خليجية لا تتحلى برؤية تحافظ على الاستقرار ووحدة ليبيا، وإنما على تصفية حسابات إقليمية، ولا سيما مع تركيا الداعمة للحكومة الشرعية في طرابلس".
ويجد مراقبون لتطورات الأزمة الليبية والمواقف الإقليمية، بدورهم، في القرار المصري بتسليح القبائل، استدعاءً لتجربة أفغانستان التي ما زالت تطحنها الحروب بسبب الاعتماد على العامل القبلي، وخلق ما يصفه أستاذ العلوم السياسية في جامعة ورقلة، جنوبي الجزائر، مبروك كاهي، بـ"أمراء حرب" لوضعهم في مقدمة المواجهة، واستخدام "مشروعية الأرض" كغطاء سياسي. إذ تسعى مصر في مقابل الوجود التركي في ليبيا الذي يستند إلى اتفاق مع حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، إلى التدخل في ليبيا بالاستناد إلى طلب قبلي على قاعدة "أهل الأرض"، وفق كاهي.
ورأى كاهي أن "مصر ذهبت باتجاه هذا الخيار لأن كل المؤشرات تدلّ على أنّ حكومة الوفاق ستقتحم سرت والجفرة بدعم لوجيستي تركي، وسقوط سرت والجفرة بيد الوفاق معناه نهاية دور مصر التي تريد بالتالي خلط الأمور. لذلك ذهبت القاهرة مباشرة إلى خيار تسليح القبائل الليبية وتغذية الطائفية". وأضاف أنّ "مصر محرجة من تركيا وتخشى المواجهة المباشرة معها، لذلك عمدت إلى الخطة الثانية المتمثلة بتسليح القبائل، وهذه الخطوة مقلقة جداً بالنسبة للجزائر التي ترى فيها لعباً بالنار وبأمن المنطقة ككل". لكن كاهي أشار أيضاً إلى عامل بالغ الأهمية يفسّر الحرص المصري على السيطرة على المشهد الليبي، موضحاً أنّ "هناك مخاوف مصرية غير معلنة، من أن تصبح ليبيا ملاذاً آمناً للمعارضة المصرية خصوصاً الإخوان المسلمين، والقاهرة لا تريد قواعد للمعارضة تكون قريبة منها".
تكذيب تصريحات منسوبة لقائد أركان الجيش حول دعم مصر ضد تركيا في ليبيا
من جانبه، لفت أستاذ العلوم السياسية قاسم حجاج، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى البعد الاجتماعي في مسألة تسليح القبائل، مشيراً إلى أنّ "امتداد القبائل الليبية عبر الحدود إلى الدول المجاورة، خصوصاً مع مصر والسودان وتشاد والنيجر والجزائر وتونس، وإن كانت بدرجات متفاوتة، والتداخل بين النسيج الاجتماعي للقبائل الليبية والجزائرية، يهدد الأمن القومي للجزائر مباشرة، بحيث لدينا قبائل الشعانبة ولدينا قبائل من مناطق ورقلة وسوف، والطوارق، جنوب وجنوب شرقي الجزائر، والتي لها امتدادات عبر الحدود في الداخل الليبي، وهو ما يشير إلى المخاوف من أن تساهم الحميّة القبلية في الإخلال بمقتضيات الأمن على الحدود الجزائرية".
في غضون ذلك، اضطر الجيش الجزائري، أمس، لنفي أخبار تحاول إقحام الجزائر في صراع المحاور بليبيا. ونفت قيادة الجيش الجزائري تصريحات نسبت إلى قائد أركان الجيش الفريق سعيد شنقريحة حول دعم مصر ضد تركيا في ليبيا، واتهمت الأطراف التي تقف خلفها بالسعي لإثارة البلبلة والتأثير على مواقف الجزائر إزاء أزمة الدولة الجارة. ووصف بيان لوزارة الدفاع الجزائرية، أمس الخميس، تلك الأخبار "بالشائعات والمغالطات الهادفة إلى زرع البلبلة وتوجيه الرأي العام الوطني نحو الاصطفاف خلف أجندات مشبوهة لا تخدم المسعى المشرف والموقف الثابت الذي دأبت الجزائر دوماً على اتخاذه تجاه الوضع في ليبيا الشقيقة، والذي أكد عليه رئيس الجمهورية في العديد من المناسبات". وذكّرت قيادة الجيش "بوقوف الجزائر على مسافة واحدة من جميع أطراف الصراع الليبي والدعوة إلى حوار ليبي – ليبي بنّاء، يفضي إلى حل سياسي دائم".
وكانت حسابات على موقع "تويتر" في مصر والسعودية قد تداولت تصريحات زائفة نسبت إلى شنقريحة، زعمت أنه أعلن وقوف الجزائر مع مصر في حال دخلت الأخيرة في حرب مع تركيا في ليبيا.