لبنان: قصة مفاوضات تحرير الجنود المخطوفين

لبنان: قصة مفاوضات تحرير الجنود المخطوفين

25 اغسطس 2014
عناصر الجيش اللبناني عند مدخل عرسال (فرانس برس/Getty)
+ الخط -

أعلنت هيئة العلماء المسلمين انتهاء عمليّة التفاوض التي قادتها بين الجيش اللبناني ومسلحين تابعين لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) و"جبهة النصرة". بدأت المفاوضات منذ الساعات الأولى لبدء الاشتباكات بين الطرفين في بلدة عرسال اللبنانية عند الحدود اللبنانية ــ السوريّة في بداية شهر أغسطس/آب.

قالت الهيئة على لسان المتحدث باسم وفدها المفاوض الشيخ عدنان إمامة، إن انسحابها من المفاوضات يهدف للإفساح في المجال "أمام أطراف أخرى قد تكون لها قدرة على تسوية ملف المخطوفين"، في إشارة غير مباشرة إلى الاتصالات التي يُجريها المدير العام للأمن العام اللبناني عباس إبراهيم، في تركيا وقطر، وإلى طلب رئيس الحكومة اللبنانية تمام سلام، من قيادة البلدين التدخل في هذا الملف. هذا ما أُعلن، لكن في العمق، هناك أسباب أخرى دفعت الهيئة للانسحاب من العمليّة.

انطلاق المفاوضات

بدأت الهيئة عبر رئيسها السابق سالم الرافعي التوسط بين الدولة اللبنانيّة والمسلحين، بناءً على طلب الجهتين. الدولة، ممثلة برئاسة الحكومة والوزراء وقائد الجيش، أرادت إنهاء الاشتباكات واستعادة الجنود بأسرع وقت، ومن دون الدخول في مضاعفات تنتج عن استمرار هذه المعركة. علم هؤلاء جيداً ان الوضع اللبناني لا يحتمل هذه المعارك، وأن استمرارها سيؤدي حكماً إلى مضاعفات سياسيّة وأمنيّة.

في الجهة المقابلة، ينقل من تواصل مع "جبهة النصرة" أنها كانت تُريد إنهاء المعركة بأسرع وقت وأقل خسائر ممكنة. أدركت الجبهة الضرر الكبير الذي ستتركه هذه الاشتباكات على المعركة المستمرة من أشهر في جرود القلمون مع حزب الله والجيش السوري، مثلما أدركت أن استمرارها سيُحيل حياة اللاجئين السوريين في لبنان إلى جحيم. يمكن تقسيم المبادرة إلى مرحلتين، مرحلة أولى سريعة وأولويتها وقف المعركة، والمرحلة الثانية بلورة اتفاق بين الجانبين يسمح بعودة الأمور إلى حالة هدوء قريبة من السابق.

ويُمكن القول إن الهيئة نجحت في تحقيق أهداف المرحلة الأولى، وأتى إطلاق سراح ثمانية من العسكريين المخطوفين كجزء من ترتيبات المرحلة الأولى وخفض منسوب التوتر. لكن الهيئة فشلت في الوصول إلى المرحلة الثانية بنجاح ولهذا الأمر أسباب ودلالات. بدأت العرقلة الجدية للمرحلة الثانية، عند إصابة الرافعي برصاصة في قدمه خلال دخوله إلى عرسال في كمين محكم، أدى أيضاً إلى إصابة جلال كلش، المقرب من الرافعي، إصابة خطرة.

فبعد الإصابة، أكمل الرافعي عمله، لتحقيق أهداف المرحلة الأولى، أي وقف إطلاق النار، ثم ترك أمر الوساطة لفريق من رجال الدين من الهيئة، ليتلقى هو العلاج لإصابته. انسحاب الرافعي أثر سلباً على المبادرة. فالهيئة لم تكن يوماً جسماً منظماً ولديه هيكليّة سياسيّة وإدارية، بل هي إطار فضفاض، يتبادل رجال الدين رئاسته كل فترة. أمّا قيمة المبادرة الحقيقية، فقد كانت في شخص الرافعي، فهو شخص يثق به الجانبان، الدولة والمسلحون، وهو ما يسمح له بالتأثير عليهما.

أسباب الفشل

تحققت أهداف المرحلة الأولى، رغم بعض التأخير وسقوط عدد من الضحايا المدنيين، كان يُمكن تفاديه، وجاء دور المرحلة الثانية. منذ الأيّام الأولى أبلغت "جبهة النصرة" جميع المفاوضين، أن مطالبها واضحة وهي تحت عنوانين: الأول، حماية المدنيين وعدم الانتقام من اللاجئين السوريين، والثاني إطلاق سراح عدد من الموقوفين بتهم تصنف "إرهابية". وقد أبلغت الجبهة المفاوضين اسمين للبنانيين، وهما جمانة حميد وعمر الأطرش (متهمان بنقل سيارات انتحاريين إلى بيروت)، على أن يتم تسليم الدولة أسماء الموقوفين الآخرين عند الاتفاق على العدد والجنسية ونوع التهم.

لكن الدولة اللبنانيّة لم ترد أبداً على هذا الاقتراح، عدا تصريح وزير الداخليّة نهاد المشنوق بأن الدولة لن تتبادل المخطوفين مع "الإرهابيين". وكل الاتصالات التي جرت لاحقاً مع الخاطفين لم تكن ذات أهميّة، إذ إن الخاطفين كانوا بانتظار جواب لم يحمله المفاوضون. وفي حقيقة الأمر، فإن الوضع كان محرجاً للرسميين اللبنانيين. رفض التبادل، بعد وقف إطلاق النار وانسحاب المسلّحين من عرسال، يعني عدم وجود أي وسيلة لإطلاق سراح المخطوفين، إذ إنّ الجيش غير قادر على القيام بعمليات كوموندوس لتحريرهم.

أمّا في حال الموافقة، فإن عاصفة من الانتقادات السياسيّة ستشنّ على أصحاب هذا القرار، هذا إضافةً إلى صعوبة الحصول على موافقة من مجلس الوزراء على عفو خاص يسمح بإطلاق سراح عدد من الموقوفين، إذ إن هذا الأمر بات من اختصاص مجلس الوزراء مجتمعاً، بسبب الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية. لكن الصعوبة الأبرز تكمن في أنّ أي موافقة على عمليّة تبادل من هذا النوع، ستفتح شهيّة هذه المجموعات المسلّحة، وغيرها ربما، للقيام بعمليات خطف أخرى بهدف إطلاق سراح موقوفين آخرين.

كما لا يمكن تجاوز أن وفد الهيئة المفاوض خسر الكثير من قيمته وانضباطه في غياب الرافعي. فصار المشايخ يتنافسون على تسريب المعلومات والظهور الإعلامي، وصارت الوفود التي تذهب إلى جرود القلمون مفتوحة لمن يرغب من الشباب في ممارسة "تشبيح" إعلامي، ففقد الوفد المفاوض الكثير من هيبته. في ظلّ هذا الضياع الرسمي، وعدم القدرة على اتخاذ قرار حاسم، كان سلام يطلب التدخل التركي والقطري، لإطلاق سراح العسكريين المخطوفين، وذلك في عمليّة تفاوض يقودها إبراهيم، وهو الذي كان الوسيط الأبرز في عمليّة إطلاق سراح راهبات معلولا في مارس/آذار الماضي، والذي تم مقابل إطلاق سراح موقوفين لدى النظام السوري، وأبرزهم على الإطلاق سجى الدليمي، وقد تداولت صفحات على تويتر لإسلاميين متشددين معلومات عن صلة قرابة تربطها بزعيم "داعش" أبي بكر البغدادي؛ ومع ذلك ينفي المشنوق أي دور لإبراهيم في المفاوضات رغم أنه زار تركيا لبحث هذا الملف.

قبل انسحاب الهيئة، قامت "النصرة" بخطوة إعلامية ــ سياسية أكثر منها عملية، وهي إجبار العسكريين على تصوير شريط فيديو يُطالب حزب الله بالانسحاب من سورية. وسبق الفيديو تسريب معلومة بأن مطلب "النصرة" هو انسحاب حزب الله لا شيء آخر.

وهكذا كانت "النصرة" تُعلن وفاة مبادرة الهيئة. في هذا الوقت، كان وفد الهيئة يتعرض لتفتيش دقيق على حواجز الجيش، ويسمع في المقابل من قياديين في "النصرة" بأن وساطتهم لا قيمة لها، من دون الرافعي، فباتت حركة هذا الوفد عبئاً أكثر منها حركة ذات جدوى، فاختار هؤلاء الانسحاب من الوساطة من السراي الحكومي، من المكان الذي انطلقت منه الوساطة. انسحبت الهيئة، وبقي العسكريون مخطوفون، وانطلقت جولة اتصالات إبراهيم، وهي بالمناسبة، بدأت مع توقيف عماد جمعة الذي أطلق توقيفه شرارة الاشتباكات. فهل ستقبل الدولة اللبنانيّة التفاوض؟ أم أنها ستدفع ثمناً آخر غير معروف بعد، لإطلاق سراح عسكرييها؟ وإذا كان إبراهيم قادراً على التفاوض، عبر وسطاء مع "جبهة النصرة"، فكيف سيصل إلى "داعش" الذي يحتجز مسلحوه بعضاً من العسكريين؟

المساهمون