كنتُ جاراً لـ"سي.أل.آر.جيمس"

كنتُ جاراً لـ"سي.أل.آر.جيمس"

13 فبراير 2015

سي.أل.آر.جيمس .. الكاريبي صاحب "اليعاقبة السود"

+ الخط -

عشت، في بداية ثمانينات القرن الماضي، في ضاحية بريكستون جنوبي لندن. وكانت أشبه بغيتو نسبة إلى سكانها، حيث يشكل مواطنو جزر الكاريبي، وغيرهم من المهاجرين الأفارقة الجدد، الغالبية الساحقة. كان السكان البريطانيون البيض من اليساريين، أو ذوي الدخل المحدود، أقلية واضحة. في تلك

الضاحية التي شهدت اضطرابات ومواجهات عنيفة بين السكان المهمشين، العاطلين من العمل، والشرطة البريطانية خبرت مواجهتين، تذكرت فيهما الحرب الأهلية في لبنان في مستوياتها الخفيفة واللطيفة.

كانت بريكستون، أيضاً، موطناً لموسيقى الريغي التي حملها إلى ذروة الاهتمام في العالم المطرب الجامايكي، بوب مارلي، ولم يكن في بريطانيا حاضنة لهذه الموسيقى خير من بريكستون، حيث مواطنو بلده يعملون على نحت لغتهم الانكليزية الخاصة، وثقافتهم المتفردة داخل الثقافة الانكليزية الطاغية.

في بريكستون حالفني الحظ في لقاء مفكر وروائي ومناضل يساري من أهم مثقفي القرن العشرين، على ما ذكر إدوارد سعيد والنقاد والكتاب المهتمون بالأدب والتاريخ والفكر الماركسي في العالم. فاجأني الحظ باكتشاف أن المفكر الترينادادي، سيريل ليونيل روبرت جيمس، يعيش على بعد شارع ونصف من سكني. لم أكن قد قرأت كتاباً كاملاً ل"سي.أل.آر.جيمس"، كما يُعرف، ولكن قرأت عن أفكاره اليسارية وسيرته وسمعت عنه من أصدقاء بريطانيين. ذهبت إلى بيت جيمس، وأبديت رغبتي في اللقاء به إلى سكرتيرته التي تقرأ له، وترقن ما يمليه عليها، وقد كان، في تلك السنوات، قد هرم، ولم يعد قادراً على القيام بجهد غير الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية، وخصوصاً أوبرا "زواج الفيغارو" التي لم يتوقف عن عشقها طوال حياته، كما ذكر لي لاحقاً.

حين عدت، في اليوم التالي، لإجراء المقابلة، وجدت عجوزاً في الرابعة والثمانين في غرفة بسيطة مليئة بالكتب حول السياسة والفن والموسيقى، وأسطواناته الأثيرة لموزارت وبيتهوفن وشوبان وغيرهم. هذه كانت سنوات سي أل آر جيمس الأخيرة. حدثني عن حياته في يومه عن أفكاره عن حبه الموسيقى، وعن "زقاق مينتي" روايته التي كانت أول رواية نشرت في بريطانيا لكاتب من الكاريبي عام 1928. تحدث عن كتابه "اليعاقبة السود" الذي لفت أنظار المفكرين السياسيين في العالم، وخصوصاً في أوساط الأفرو- أميركيين وأفريقيا، الكتاب الذي جمع بين التحليل المستند إلى الماركسية والكتابة الروائية، مع معرفة عميقة بالظروف التاريخية والاجتماعية لمجتمع العبيد في تاهيتي، حيث أول ثورة للعبيد في العام 1791، بقيادة العبد السابق تويسانت لافرتور. وقد جاءت أهمية الثورة في أنها حدثت بعد عامين على الثورة الفرنسية التي رفعت شعار الحرية والإخاء والمساواة والتناقض الحاصل بين تلك الشعارات وتطبيقاتها في فرنسا وتلك التي تطبق في المستعمرات الفرنسية.

وحدثني جيمس عن نقاشاته مع ليون تروتسكي في منفاه في المكسيك، وكان جيمس قد بدأ حياته النضالية في الداوئر التروتسكية البريطانية. اختلف جيمس مع تروتسكي الذي لم تعجبه، في البدء، أفكار هذا المفكر الماركسي الكاريبي الأسود المؤمن، على عكس الراديكاليين البيض، بأن الأفارقة الأميركيين يمثلون القسم الأكثر ثورية من الطبقة العاملة الأميركية، وكان يؤمن بأن كفاح السود في أميركا لا يقتضي، بالضرورة، قيادة بيضاء للحركة العمالية. وعلى الرغم من صخب الجدل بين جيمس وتروتسكي، في تلك المرحلة التاريخية، استطاع جيمس أن يقنع تروتسكي بأهمية أفكاره.

عندما وصل الحديث إلى فلسطين، راح جيمس يطبق مفاهيمه في"اليعاقبة السود" ورؤيته حول الحركة العمالية السوداء، في مجتمع يهيمن عليه البيض، المتناقضة مع المفاهيم التروتسكية التي سادت حركة اليسار البريطاني، في الثمانينات، حول تحالف الطبقة العاملة الإسرائيلية والطبقة العاملة الفلسطينية والعربية لبناء كيان اشتراكي في المنطقة مبني على المساواة. يجب على اليسار الإسرائيلي، إن وجد كما قال، أن يتخلص من الصهيونية كأيديولوجيا عنصرية، قبل الحديث عن تحالف طبقي مع الفلسطينيين.

8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.