كلارا خانيس: كلُّ ما هو إسبانيّ ينبض عربيّاً

كلارا خانيس
01 يوليو 2020
+ الخط -

تُجمِّعُ التقاليد والتوليفات الشعريّة الغامضة مع خطوط العرض المختلفة. توجّهها جميعاً بروح النفس الأنثويَّة التي تحوك قماشاً رمزيّاً يبرز الأوردة الفكريَّة، الرغبات، الأساطير، الجنس واللُّغة. صوتها أصيل، يتفجَّر عن رؤية تتصارع، حتّى النهاية، مع جذورها، مستكشفةً بذلك تراثها الصوفيّ والأندلسيّ الذي، كما تقول لنا، "ينبض في كلِّ ما هو إسبانيّ".

كلارا خانيس (برشلونة 1940)، شاعرة، قبل أيّ شيء، إلّا أنَّ إبداعها الفنيّ وبحثها الفكريّ الدائم جعلاها تبرع في أكثر من جنس أدبيّ، لتكتب بذلك الرواية والدراسة؛ لترسم وتصوّر وتنسج قصائد أصبحت جزءاً أساسيّاً من بانوراما الشعر الإسبانيّ.

رسَّخت كلارا خانيس نفسها واحدةً من أبرز الأصوات النسائيَّة في الشّعر الإسبانيّ الحديث مع نهاية الربع الأخير من القرن المنصرم. نالت العديد من الجوائز الأدبيَّة، وهي اليوم باحثة في الأكاديميَّة الملكيَّة للُّغة الإسبانيَّة، حيث تعمل إلى جانب كبار اللغويين والشعراء والكتّاب على تطوير اللّغة الإسبانيَّة. إضافة إلى ذلك، فقد أسهمت في تقديم كبار الشعراء العرب إلى القارئ الإسبانيّ.

اليوم، عن عمر يناهز الثمانين، لا تزال عينا كلارا الزرقاوان تلمعان. تحدّثنا بصوتها الناعم الذي لم يصمت منذ ديوانها الأوّل "نجوم آفلة" (1964)، عن مشاريعها الأخيرة، عن الكورونا والحجر، عن الإرث العربيّ الأندلسيّ، الترجمة، عن الشِّعر والعلم.

"الكون ممتلئٌ بالمساحات الرنَّانة والارتجاجات، وكي نكتشف الكون فلا بدَّ لنا من النظر علميّاً إليه، لكنَّ العلم لا يكفي وحده، هنا تأتي أهميَّة المساحات التي يمكن أن يفتحها الشعر"، تقول الشاعرة الإسبانية البارزة لـ"العربي الجديد".


■ كلارا خانيس، كيف عشتِ فترة الحجر وكورونا في مدريد؟ 
- لقد عشتُ فترة الحجر في مدريد بطريقة خلّاقة، بشكلٍ إبداعيٍّ صرف. في كثير من الأحيان تحدث لنا بعض الأشياء التي لا نعرف كيف نجد لها تفسيراً. في أثناء فترة الحجر وقعت بين يديّ، لا أعرف كيف، "مخطوطة ليستر" لليوناردو دافينشي. هكذا رأيت نفسي لا أفعل شيئاً آخر سوى القراءة والكتابة. كانت النتيجة أن انتهيت، منذ خمسة أيّام فقط، من وضع اللمسات الأخيرة على ديوان جديد بعنوان "تحت جناح دافينشي". أدرجت فيه رسومات ونصوصاً من المخطوطة نفسها، وهكذا جاءت أغلب القصائد من وحي لوحات رأيتها للمرَّة الأولى في أثناء الحجر.

■ ما المكان الذي تحتلّه الكلمة الشعريَّة اليوم في ضوء التغيّرات الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي نعيشها في هذا العالم؟ 
- أعتقد أنَّ الكلمة هي أهمّ شيء يملكه الإنسان. علاوة على ذلك، كانت الأولى في الظهور في كثير من الثقافات والحضارات. أمَّا الكلمة الشعريَّة فهي الشرارة الأولى التي سرعان ما تتوحَّد مع الرقم-الرمز. بالنسبة إلى المصريين، على سبيل المثال، ولا سيّما في النصوص الجنائزيَّة للمصريين القدماء، يقول الإله أتوم، بعد خلق الماء والعناصر الأربعة: "أنا الواحد الذي يتحوَّل إلى اثنين. أنا الاثنان اللذان يتحوَّلان إلى أربعة. أنا الأربعة التي تتحوَّل إلى ثمانية. ثمَّ أعود واحداً".

■ بدأتِ بالكتابة في السابعة عشرة، وطوَّرتِ أكثر من جنس أدبيّ (رواية، شعر، دراسة، ترجمات)، وتُرجمت أعمالُك إلى عشرات اللغات، حينما تنظرين وراءً، كيف تقيّمين مسيرتك الإبداعيَّة؟ 
- حقيقة، بدأت الكتابة عندما كنت في السادسة من عمري. كلّ ما كنت أكتبه آنذاك كانت معلّمتي تنشره لي في مجلَّة المدرسة. ثمَّ بعد ذلك كتبت أوَّل رواية لي، وكنت أرسم آنذاك كثيراً. (طبعاً ضاع كلّ شيء). في سنّ السابعة عشرة، لمَّا بدأت بشكل جديٍّ، أهداني والدي أنموذج كتاب فارغ رحت أكتب فيه، وكنت أرفق كلَّ شيء أكتبه برسومات. أمَّا عن مسيرتي الإبداعيَّة ومشاريعي، فربَّما لم يخطر في بالي قطّ مشروع متكامل لمسيرتي الإبداعيَّة كوحدة عضويَّة. مسيرتي هي كلّ مشروع بحدِّ ذاته. وسأقول لك هنا إنَّ الحظَّ لعب دوراً كبيراً في كثير من هذه المشاريع، ولا سيّما في الترجمات. أمَّا المسعى فكان دائماً التعلُّم وتقديم الأفضل مع كلِّ مشروع.

■ هل تعتقدين أنَّ النقدَ تناول جميع جوانب شعرك، أو أنَّه حتَّى الآن ثمَّة زوايا وطاقات كامنة فيه لم يقرأها بعد؟ 
- ثمَّة فرق كبير بين مقالة نقديَّة تُكتب في صحيفة ما ودراسات وكتب نقديَّة كاملة تنشر حول أعمالك. بالنسبة إليَّ، أشعر أنَّني محظوظة في كلا الجانبين. أعتقد أنَّ النقد قد تطرَّق إلى جوانب لم أكن متنبِّهة إليها في البدء، ثمَّ عملت على تطويرها. كذلك أشعر دائماً أنَّ النقد مرتبط بحساسية الناقد، وإلّا لماذا، إذاً، كتب أحد كبار الباحثين الإيرانيين في قصيدة واحدة لي ما يقارب مئة صفحة؟! ولماذا كتبت باحثة إيطاليَّة كتابين كبيرين تدرس فيهما عملي الشعريّ؟! الأمر مرتبط بالحساسية أغلب الظنّ.

■ هل قلتِ كلَّ ما تريدين قوله؟ 
- وما عساي أقول بعد الآن سوى أنَّني لا أسمع إلَّا صوت صفّارات سيَّارات الإسعاف!

الترجمة قراءة خلَّاقة مكثَّفة والشعر هو التحوّلات

■ تبرزين أيضاً كمترجمة، الجائزة الوطنيَّة للترجمة، علاوة على جوائز أخرى. في حالتك، ماذا كان في البدء، الترجمة أم الشِّعر؟ وفي رأيك، هل يمكن ترجمة الشِّعر؟
- في رأيي الترجمة هي قراءة خلَّاقة مكثَّفة، من هنا دائماً اعتقدت بترجمة الشعر بحسبان أنَّ الشعر هو التحوّلات. وإذا ما أخذنا بقول الشاعر التركيّ فاضل حسني داغلرجه "إنَّ الشعر هو ما يبقى بعد أن تختفي الكلمات"، فيمكننا، تبعاً لهذه المقولة، ترجمة الشعر.

■ يقول بودلير: "إذا نزل الوحي فسيجدني أعمل"، هل يزورك الوحي الآن، وما هي المشاريع التي تعملين عليها؟ 
- كما قلت لك، انتهيت من كتاب "تحت جناح دافينشي". وحالياً أعمل على إتمام ترجمة "كتاب الأسرار" للشاعر والمتصوّف الفارسيّ فريد الدين العطّار. كذلك وصلتني منذ أسابيع بعض الكتب لشعراء رومانيين، ومن المحتمل جدّاً أن أعمل في ترجمة واحدٍ منها مع صديقة من بوخارست. كذلك انتهيت مع مجموعة من الأصدقاء من ترجمة كتاب "الرسائل" لعمر الخيَّام، الذي تضمَّن مجموعة من الرسائل في الفلسفة والرياضيّات والموسيقى، ترجمناها مباشرة عن العربيَّة. وأمامي الآن على الطاولة، الشاعر والفيلسوف المعرّي. من المؤكَّد ستصل اللحظة المناسبة، إضافة إلى مجنون ليلى، الذي لطالما كان مصدر وحيٍ لي.

■ أنتِ شاعرة أوروبيَّة، ولدتِ في مجتمع غربيّ، وطوَّرتِ حياتك المهنيَّة بين الجامعات الأوروبيَّة. الشرق موجود دائماً في شعرك؟ من أين جاء هذا، ولماذا؟ 
- لقد بدأ كلُّ شيء مع دمية يابانيَّة كانت في منزلنا لم يسمح لي والداي آنذاك باللعب فيها عندما كنت في الثالثة من عمري. غير أنَّ علاقتي العميقة مع الشرق تعود إلى أبي الذي كان صديقاً للمستعرب الكبير إيميليو غارسيا غوميز، الذي كلَّما زارنا، كان يسحرني بحديثه عن الشرق وعن الموسيقى المصريَّة. لقد كانت كتبه كلّها في منزلنا وقرأتها جميعها.

■ إضافة إلى عملك في الأكاديميَّة الملكيَّة للغة، كان لك دور ريادي في في تقديم كبار الشعراء العرب إلى القارئ الإسبانيّ. ما علاقتكِ بالعالم العربيّ وثقافاته؟
- كما قلت لك، علاقتي قديمة تعود إلى مرحلة الطفولة، حين تعرَّفت إلى الموسيقى العربيَّة. زرتُ المغرب ومصر مرّتين، وهناك تعرَّفت إلى كثير من الشعراء والكتَّاب. كذلك كنت في اليمن، في ملتقى شعري، وهناك تعرَّفت أيضاً إلى كثير من الشعراء العرب الذين لا زلت أتواصل مع بعضهم. في عام 1987، في المغرب، وتحديداً في مدينة أصيلة، التقيت أدونيس وأصبحنا صديقين. حقيقة كنت محظوظةً في حياتي!

■ ما الذي دفعك إلى ترجمة المتنبّي؟ وماذا أضاف إليك هذا الشاعر؟ 
- لقد كان أدونيس من حدَّثني للمرَّة الأولى عن المتنبّي وعن ضرورة ترجمة هذا الشاعر إلى لغات العالم كافَّة. وفعلاً، قمت بالأمر مع أستاذة اللغة العربيَّة ميلاغروس، وكان العمل رائعاً ودقيقاً. وقفنا عند كلِّ كلمة قالها المتنبّي، والنتيجة كانت ديوان "وقتٌ بلا هدنة". أتذكَّر حينها أنَّني تركت لوهلة الصوفيين، وقرَّرت المضيَ على خُطا المتنبّي، قلقةً كأنَّ الريح تحتي!

■ يلاحظ قارئ أعمالك وجود طاقة علميَّة تسود شعركِ، إلى درجة أنَّ قصيدتك هي نسيج من العلاقات الرياضيَّة والفيزيائيَّة والعلميَّة بشكل عامّ. هل تعتقدين أنَّ العلم يساعد في فهم الشعر؟ 
- منذ طفولتي كانت كتب آنشتاين تملأ مكتبة أبي. في سنّ السابعة عشرة قرأت أوَّل كتاب له وفهمت ما فهمت منه. في صغري كنت أتمنّى أن أكون عالمة فلك، لذلك أهداني والدي تيلسكوباً تمكَّنت من خلاله من رؤية فوّهات القمر. في عام 1984، سافرت إلى مدينة لياج في بلجيكا ممثلة إسبانيا في أحد المؤتمرات، وهناك استمعت إلى محاضرة بعنوان "الأدب والعلم، المسألة نفسها؟" ومنذ ذلك الحين سحرتني هذه العلاقة بين العلم والأدب عموماً. بعد عودتي إلى إسبانيا هممت بقراءة العلماء. أعتقد أنَّ الكون ممتلئ بالمساحات الرنَّانة والارتجاجات، وكي تكتشف الكون فلا بدَّ لنا من النظر علميّاً إليه، لكن العلم لا يكفي وحده، هنا تأتي أهميَّة المساحات التي يمكن أن يفتحها الشعر.

■ كيف تكتبين الشِّعر عادةً؟
- تبدأ القصيدة كنوع من الرقص على وقع موسيقى الخطوات في أثناء المشي في الشارع. حتّى الآن يحدث معي ذلك. أعود إلى المنزل وأكون قد حفظت في عقلي شيئاً ما، وأسارع إلى كتابته، وأحياناً بدلاً من قصيدة واحدة أكتب عشراً.

الشعر الإسباني القديم والمعاصر مدين للإرث العربي

■ عرفت الثقافة الإسبانيَّة أطواراً مختلفة في التعامل مع الإرث العربيّ الأندلسيّ، من محاولة محوّه فالتجاهل وصولاً إلى تعرُّفه والتفاعل معه (لوركا في الشعر مثلاً) والاعتراف به جزءاً من الهويَّة والثقافة الإسبانيّتين (على يد تيَّار من المؤرّخين والباحثين الجدد، ولا سيّما في العقود الأخيرة)، كيف كانت تجربتك كشاعرة مع هذا الإرث، وإلى أيّ درجة تعتقدين أنَّه مؤثِّر في الشعر الإسبانيّ وشعر اللغة الإسبانيَّة عموماً، ماضياً وراهناً، وما هو برأيك مستقبل النقاش حول الإرث الثقافيّ العربيّ في الهويَّة الإسبانيَّة؟
- من دون شكّ، إنَّ الإرث العربيَّ الأندلسيَّ في إسبانيا هو إرث رائع، وأعتقد أنَّه حتَّى الآن لم يُكتشف بشكل كامل، ولا سيّما تلك الكتب التي خُبِّئت خوفاً من الكنيسة. كلّ ما هو إسبانيّ يحمل شيئاً عربيّاً داخله. وبالنسبة إلى الشعر الإسبانيّ، إنَّ هذا الشيء العربيّ ينبض داخله ويرجّه، وشعر لوركا هو خير مثال على ذاك الأثر، إضافة إلى الأثر البارز حتّى الآن في كلِّ ما يظهر من شعر إسبانيّ. حتّى قبل لوركا، كان الأثر العربيّ واضحاً في الشعر الإسبانيّ التقليديّ، ولا سيّما عبر الموشَّحات الأندلسيَّة. بالنسبة إليَّ، أعتقد أنَّ الشعر الإسبانيَّ لم يصل إلى ما وصله اليوم إلَّا بسبب هذا الإرث المشترك مع العرب، وإذا ما رغبنا لشعرنا الإسبانيّ في التطوّر واستكشاف آفاق جديدة، فلا بدَّ لنا من التفاعل مع هذا الإرث العربيّ الغنيّ، إذ إنَّ تجاهله لن يفيد شيئاً، وسيكون بمنزلة طمس رأسنا كما تفعل النعامة.


صاحبة الكلمة والسّر
شاعرة وكاتبة ودارسة ومترجمة، تُعتبر من أبرز الأسماء الأدبية في إسبانيا والبلدان الناطقة باللغة الإسبانية. ولدت في برشلونة عام 1940 وحصلت على الليسانس في الفلسفة والآداب، ثم انتقلت إلى باريس لتدرس في جامعة السوربون الأدب المقارن. خاضت في أكثر من جنس أدبي وبرزت في الشعر والدراسة، إضافة إلى الترجمة عن الفرنسية والتشيكية. وهي حالياً عضو في الأكاديمية الملكية الإسبانية للغة عن حرف "U". حصلت على العديد من الجوائز الأدبية الوطنية والدولية. نذكر من أعمالها على سبيل المثال لا الحصر: "الكلمة والسر"؛ "الأشجار في الثقافات الثلاث"؛ "نحو الضوء"؛ "عالمي الشعري"؛ "تحولات غامضة" (الصورة)، إضافة إلى العديد غيرها.

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون