قتلوا أعياد حبّنا... في سورية

قتلوا أعياد حبّنا... في سورية

14 فبراير 2016

لوحة للفنان وسام الجزائري

+ الخط -
غالبية شعوب الأرض الحية لديها يوم يُسمّى عيد الحب، أو أسماء أخرى تسبح في بحر هذا المعنى، يحمّلونه دعوة الناس بعضهم بعضاً إلى الاحتفال والتعبير والفرح بالحب. لكن، لا تتفق كل الشعوب على توقيت هذا اليوم، فاقتران الحب بالحياة والخصب ودورة الطبيعة جعل هذا اليوم قريباً من مواسم الربيع وعودة الحياة، وحيكت لأجله الأساطير والحكايا، ليبقى الحب حاضراً في الميثولوجيا، بوهجه وهيبته التي تكتسي حلّة من القداسة الغيبية.
لكن العيد الأكثر شيوعاً، وانتقل إلى معظم أنحاء العالم في عصر العولمة، هو عيد الفالانتاين، أو القديس فالانتاين، وصار الاحتفال به، في الرابع عشر من فبراير/ شباط، يجري بصورة نمطية في مناطق كثيرة، تشكّل البطاقة التي تعبر عن الحب، إن بصور ورسومات، أو بتعابير رومانسية، عنصراً أساسياً في التعبير والاحتفاء بهذا اليوم. وفي العام 2001، خصصت الرابطة التجارية لناشري بطاقات المعايدة جائزة سنوية تحمل اسم "جائزة استر هاولاند لأفضل تصميم لبطاقات المعايدة". وتُقَدّر الرابطة في الولايات المتحدة الأميركية أن عدد بطاقات عيد الحب التي يتم تداولها في كل العالم سنوياً حوالى مليار.
ومثل بقية الشعوب، كانت لدينا، في سورية، احتفالات على هذا النمط بعيد القديس فالانتاين، وكانت الحياة الاقتصادية تزدهر في هذه المناسبة، فتزداد حركة الشراء، وتكتسي المحلات باللون الأحمر، وتنشط شركات الاتصالات في ترويج بطاقات المعايدة الإلكترونية، إن كان برسالة نصية منتقاة من باقة من تعابير الحب، أو بأغنية أو نغمة، كما أن المقاهي والمطاعم تشهد ازدحاماً، كذلك بعض الشوارع التي تختص كل مدينة بواحدٍ، أو أكثر منها، يشهد تجمع أسراب الصبايا والشباب في حلّة جديدة، يتوهج فيها الأحمر، مثلما تتوهج خدود الصبايا. حتى الكبار أو الكهول الذين يدارون خجلهم فلا يجرؤون على الإفصاح عن مشاعر لا زالت دافئة في صدورهم، كانت لهم وسائلهم الخاصة للاحتفال، والتعبير في هذا العيد.
وفي الحقيقة، ليست روح هذا العيد غريبة عن الوجدان الجمعي، ولا الذاكرة الجمعية لشعب سورية، فقد مرّت عليها شعوب كثيرة، وأنشئت على أرضها ممالك وامبراطوريات، وقامت عليها حضارات قديمة، وتركت لنا أوابدها ورُقمها التي دوّنت عليها أوجه نشاطاتها وثقافاتها وأعيادها التي لا زال بعضها يجري الاحتفال بها بطقوسٍ تترجم رموز تلك الأعياد. فهناك "الأكيتو" الذي هو رأس السنة الآشورية، في الأول من إبريل/ نيسان، وهو يُعد إرثاً عريقاً يمتد آلاف السنين، توارثه الآشوريون (السريان والكلدان) من الحضارات السورية الرافدية القديمة في زمن سومر وأكاد وبابل وآشور، حيث تُلخّص طقوس هذا العيد وشعائره رؤية آشورية (أكادية ـ بابلية) متكاملة للحياة والكون والإنسان محور الكون وغاية الوجود. وتجري الاحتفالات فيه بطريقة كرنفالية جميلة، ومنها إقامة شعائر وطقوس زواج جماعي. كذلك النوروز، في الحادي والعشرين من مارس/ آذار، عيد رأس السنة عند الأكراد، احتفال ومهرجانات فرح وبهجة، يجتمع فيها الرجال والنساء باللباس التقليدي، ويحيون الفرح والرقصات الجماعية، بينما الشعلة تتقد وتتراقص وتتوهج. وهناك الشباب والصبايا ومغازل الحب تدور بينهم.
وفي الريف الساحلي، كانت هناك احتفالات عيد الرابع، وهو الرابع من إبريل/ نيسان، وفق
التقويم الشرقي، يقابله السابع عشر منه في التقويم الغربي. يزحف الناس من قرى محيطة بمكان اتفق عليه مسبقاً، وصار مسرح العرض الضاج بالحياة منذ زمن لا أحد يهتم بتأريخه، فالمهم أنه موجود، وأنه ينتظرهم كل عام. يتفرق الناس ليلتئموا بمجموعاتٍ تجيد الدعوة المبطنة. الأطفال مع بعضهم، والكبار مع بعضهم، والصبايا والشباب مع بعضهم، حركة لا تهدأ، ثم يبدأ الطبل والمزمار وحلقات الدبكة. الجميع يبدون بثياب جديدة، تتشابك الأيدي وتخبط الأقدام على الأرض، ويزداد غنج الصبايا وحماس الشباب. بين وصلةٍ وأخرى، تسكت الأغاني، ويبدأ الزجل، وتتصاعد رائحة اللحم المشوي أو المسلوق، مختلطة مع رائحة الحطب المحترق والربيع، وتكسير البيض المسلوق بألوانه المتنوعة.
لم يكن الاحتفال يقتصر على أهل الريف، بل صار مهرجاناً، يشارك فيه أهل المدن أيضاً، وكان بعض الشباب المجندين في الجيش يحضرون بلباسهم العسكري، وقد أشبعوه تنظيفاً وكيّاً، فذكرى الاستقلال التي تصادف المناسبة كانت تزيدهم عزّاً وعنفواناً، وهذا العيد الموافق لعودة الحياة بزخمها المتدفق شلالات حب وبهجة، كانت تحرّض أحلامهم، وتؤجج عشقهم، فلطالما اشتبكت النظرات المتلهفة الراغبة بين صبايا وشبان، وانتهت الحكاية بأن يذهب الشاب الذي وقع في غرام صبيةٍ إلى أهلها، ليطلب يدها، فتبدأ حكاية أخرى بفصل جديد.
في غفلة منا، تسلل العيد، ليقبع في ذاكرة متعبة، هل هو صدى الهزيمة؟ أم ربما لأسباب أمنية كما رُوّج للحكاية، منعت التجمعات في أواخر السبعينيات؟ هناك احتمالات كثيرة، لكن المؤكد أن الفرح غادرنا، وخسرنا وجهاً من وجوه حياتنا الغنية المنوعة، ثم جاءت هذه الحرب اللئيمة، لتقضي على آخر ومضة حب، تتقد في دواخلنا وتزرع مكانها بذور الكراهية واليأس، وتسطو على هويتنا المتشكلة عبر التاريخ.
أما القديس فالانتاين، فحكايته ربما تناسب وحشتنا وخيبتنا وجروحنا وموتنا ويتمنا. كقسيس رفض قانوناً لم يتم التصديق عليه رسمياً، يقال إنه صدر عن الامبراطور الروماني، كلوديس الثاني؛ وهو قانون كان يمنع الرجال في سن الشباب من الزواج. وافترضت هذه الروايات أن الامبراطور أصدر هذا القانون، لزيادة عدد أفراد جيشه، لأنه كان يعتقد أن الرجال المتزوجين لا يمكن أن يكونوا جنوداً أكفاء. وعلى الرغم من ذلك، كان فالانتاين، بوصفه قسيساً، يقوم بإتمام مراسم الزواج للشباب. وعندما اكتشف كلوديس ما كان فالانتاين يقوم به في الخفاء، أمر بالقبض عليه، وأودعه السجن. يُساق شبابنا إلى أتون الحرب، ويُقذفون إلى موت رخيص، من دون أن تُسنّ القوانين المانعة للزواج. بناتنا لم يعد لديهن ما يحرّض أحلامهن، وسيحزنّ بشدة عند سماع فيروز تغني "أمي نامت عا بكير وسكّر بيّي البوابة، وأنا هربت من الشباك وجيت لعيد العزّابة".
يأتي عيد الحب في سورية، في أيام حالكة السواد. حلب مهددة بالاختناق، الروس في السماء والمقاتلون في الأرض، أميركا لا تبالي، تركيا تهمّها مشكلة الأكراد، مناطق داعش يبدو أنها مؤجّلة، دمشق تحت رحمة المفخخات، الساحل مثل طبل مصاب بالورم، يردّد أصداء الحرب، وتشق فضاءه أبواق سيارات الإسعاف ومواكب التشييع، موت وموت وتهجير في كل مكان. ويلوذ السوريون بدروب الموت بطرق أخرى، والعالم لا زال مشغولاً بحياكة أكفاننا، بينما لا نعرف كيف نتفق على النجاة من موتنا.