في وداع مبارك العامري

13 ابريل 2020
+ الخط -
ودّعنا قبل أيام الكاتب مبارك العامري، الذي يمكن اعتباره، من دون أدنى مبالغة، رائد الصحافة الثقافية في عُمان، حين رعى، في أواخر السبعينيات، أولى حاضنات الأدب العُماني الجديد. دخل الصحافة الثقافية من بابها الضيق، وفي زمن غير الزمن، حين كانت الممارسة الثقافية، في جانبها الحداثي، تكتسي طابعا نضاليا، ففي نهاية السبعينيات أسس "الملحق الأدبي" في قلب مجلة أسبوعية ذات طابع محافظ، كما يوحي اسمها (العقيدة). كانت في بداياتها تصدر من بيروت وتوزّع في مسقط. استطاع مبارك أن يواظب على إصدار حزمة أوراقه الأدبية في هذه المجلة حتى منتصف الثمانينيات، موازنا فيها بين الأصوات الجديدة المتفاعلة مع الأدب العالمي وتطلعاته الفكرية والجمالية، والأصوات الكلاسيكية الراسخة، الممثلة في أهم أقطابها التقليديين، كالشاعريْن أبو سرور الجامعي وعبدالله الخليلي الملقب أمير البيان، والذي جمعته بالعامري عرى صداقة، حيث كان يزوره في مقر عمله في المجلة، ما يدلّ على حرص الشاعر الكبير الخليلي على توثيق هذه العلاقة، ليس بالنشر فقط في الملحق الأدبي، إنما بالتقرّب مباشرة من الشاب المشرف عليه، الأمر الذي شكل بينهما تفاعلا ومواقف وتفاصيل، تحدث عنها العامري، قبل وقت قصير من وفاته، في مقابلة معه نشرتها أخيرا صحيفة عُمان، أجراها معه محمد الحضرمي في المستشفى. وبذلك استطاع "الملحق الأدبي" أن يشكل ما يمكن تسميته الأرشيف الأول للصحافة الثقافية العُمانية، حين كانت صفحاته تستضيف جميع كتّاب الحساسية الجديدة، بالإضافة إلى رصد (وتوثيق) الفعاليات الثقافية المحلية المحدودة في ذلك الوقت.
وحين أغلقت مجلة العقيدة، انتقل مبارك العامري ليعمل في مجلة "الشرطة" مديرا لتحريرها. ونظرا إلى طبيعة القطاع الذي تنتمي إليه المجلة، فإن مساحة الأدب فيها من الطبيعي أن تضيق. وعلى الرغم من ذلك استطاع العامري أن يترك عليها بصمته الأدبية، بدايةً من تغيير اسمها إلى مجلة "العين الساهرة"، ثم ما ستشهده صفحاتها من اقتباساتٍ من نصوصٍ أدبيةٍ عربيةٍ وعالمية، وكذلك عن طريق عقد لقاءات مع أدباء عُمانيين، وأتذكّر في إحدى زياراتي له في مكتبه في مدينة القرم، أنه طلب مني مقابلةً لصالح المجلة. إلى جانب تفعيل هامش مهم في هذه المجلة، وهو سرد جوانب من حياة المتقاعدين من الشرطة. يضاف كذلك إصدار كتيب مرفق بالمجلة، يُعنى بالطفولة، ومزوّد برسوم تعبّر عن مواضيع ذات أهداف توعوية للنشء.
وإذا كان مبارك، في الأساس، شاعر قصيدة نثر، إلا أنه، ونظرا إلى ما تمثله الرواية من محفز لمحاورة الحياة بكل أبعادها، ولما توفره تقنياتها من انفتاح وإمكانية غير محدودة لصهر كل الأنواع الأدبية، بما فيها الشعر، فقد كان أولُ إصداراته المطبوعة روايتي "مدارات العزلة" و"شارع الفراهيدي"، ثم شرع في كتابة رواية "الملتبسون" التي نشر منها فصلا في مجلة نزوى. ولكن ما إن فاجأه المرض، حتى التجأ إلى الشعر. ولأن الشعر في أحد صفاته الأساسية "فعل تطهير"، كما يذكر أرسطو في كتابة "فن الشعر"، فقد شرع العامري يكتب كل يوم تقريبا قصيدة، وينشرها في صحيفة الوطن، وهي قصائد لا تستجيب بالضرورة لصنعة الشعر وسبكه، بقدر ما تستجيب للبوح والتنفيس. ثم انتقل ذلك البوح والتنفيس إلى صفحته الزرقاء في "فيسبوك"، الفضاء التفاعلي الواسع الذي تمكن فيه مبارك من كسب قرّاء من كل أرجاء العالم العربي، تفاعلوا بصدق مع معاناته، ومع الصوت البليغ لآلامه الناتجة عن صراعه مع المرض. وقد انتقى الشاعر حزمةً من تلك القصائد، أودعها ديوانا أطلق عليه عنواناً دالاً "بسالة الغرقى".
ومن يعرف مبارك العامري عن قرب، يتعرّف فيه على صفات إنسانية غاية في النبل والإيثار، فكرمه يطاول حتى كتبه النادرة فيعيرها إلى أصدقائه، وهو يودعهم عند عتبة بيته الجميل. لذلك فإن كتبه الموقعة باسمه موزّعة على أغلب بيوت معارفه. وهناك كذلك غرفة ملحقة ببيته، كان يمنحها لمن تعثّر به المسكن من أصدقائه. وكان حين يسمع عبارة ذكية من صديق، يعصر يديه تأثرا وفرحا، وكأنه يتعطّر بما سمعه، ويخضّب به يديه.
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي