في فصام النُخَب الثوريّة السوريّة

في فصام النُخَب الثوريّة السوريّة

31 مايو 2014
+ الخط -
يتصرّف سوريون كثيرون كما لو أن لا شيء تغيّر في السنوات الثلاث الماضية، يتصرفون كما لو أنهم ما زالوا يعيشون في سورية، تحت حكم الأسد والبعث، ينهجون سلوكاً مشابهاّ للّذي كرّسته المنظومة السلطوية الحاكمة، من حيث الاتكاء على الهويات الصغيرة اللاوطنية واللامواطنية، في العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية. يتصرفون، حتى وهم في منافيهم ودول لجوئهم، بذهنية الفساد نفسها التي أصبحت سياقاً مجتمعياً طبيعياً، لا سيما في العقد السوري الأخير ما قبل الثورة، حيث لم يستثنِ الفساد أحداً، مؤسسات وأفراداً، فساد اتّضح، اليوم، أنه مطابق تماماً لكل ما أرادت ذهنية النظام تكريسه لدى السوريين، لتبقيهم مجموعات متعايشة في الظاهر، بينما في الباطن، ليست سوى مجموعات مسيّرة برغبة التمايز واقتناص الفرص، وتصدّر المشهد العام، وإطلاق الأحكام القطعية (الأخلاقية والوطنية والثقافية) على الآخرين، ويتبعه تقريب المشابهين والإقصاء الكامل للمختلفين، وتهميشهم باتهامهم بكل ما يثير حفيظة المجموع ضدهم.

ليس الحديث هنا عن الطوائف فقط، فالطائفية السورية، وإن ظهرت، الآن، بوصفها أكثر الأمراض السورية المجتمعية خطورة، فثمة ما يوازيها، أو يكاد يتفوّق عليها في القدرة على جعل المجتمع السوري مقسّماً ومفككاً وعاجزاً عن الفعل التغييري وبناء المستقبل، الحديث، هنا، عن خراب عام يطال كل الشرائح السورية. ولعلّ التجلّي الأكبر لحالة الخراب هذه يظهر عند شريحة النُخَب، الثقافية أو السياسية. وغالباً، ما تتماهى هذه النخب في الحالتين معاً، بحيث لا يمكن الحديث عن الثقافة بعيداً عن السياسة، ولا يمكن الحديث عن السياسة بعيداً عن الثقافة، لا سيما في هذه المرحلة الاستثنائية من التاريخ السوري، والعربي عموماً، وإن كان تماهي السياسي مع المثقف أقل وضوحاً من تماهي المثقف مع السياسي.

هذا التماهي (النخبوي) كان يمكنه أن يقود عملية التغيير الصحي والمعافى نحو الدولة المدنية الديموقراطية، والتي تعيد الاعتبار إلى مفاهيم أصبحت طي النسيان، كالمواطَنة والعدالة الاجتماعية، لو أن النخب السورية لم تصبها العدوى بفيروسات الخراب السلطوية، أو لو أنها استطاعت، في الثلاث سنوات الماضية، التخلّص تدريجياً من مخلّفات الخراب في أدائها العام، وفي سلوكها الشخصي في تعاملها مع العام، في انتظار أن يحين أوان العودة إلى سورية، والبدء في بناء مجتمع سليم قائم على أسس صحية، متخفّفة من الأمراض التي ساهمت في تدمير كيان المجتمع. لكن ما يطفو الآن على السطح يشي بأن النخب تفوّقت في إظهار انعكاسات أمراضها على القاعدة الشعبية التي تتعالى عليها أصلاً، وأن ما يفترض أن الثورة قامت ضده في علاقة السلطة مع المجتمع، ونبّهت إليه النخب في بدايات الثورة عادت، اليوم، إلى ممارسته في سلوكها اليومي، كما لو أن تلك المرحلة القصيرة، في بداية الثورة، كانت مجرد طفرة، ولم تتثبّت بصفتها ما يجب أن يُبنى عليه السلوك الجمعي السوري، في المرحلة الجديدة!
 

عانى شباب سورية، قبل الثورة، من انعدام رؤيتهم أي أفق يتيح لهم رؤية مستقبلهم، كما يحلمون، فثاروا متكئين على الظرف العربي العام، وبوادر التغيير التي بدأت في تونس أول عام 2011، وساندت النخب مطالبهم في البداية، ووقفت إلى جانب مشروعية مطالبهم، وأحقيتها في وجه نظام يريد احتكار مستقبلهم، كما احتكر ماضيهم وحاضرهم. ثاروا ضد التهميش، وسرعان ما عادت النخب لتمارس التهميش نفسه في علاقتها بالثورة. ثاروا ضد الإقصاء، فإذ بالإقصاء نهج طبيعي، تسلكه نخب الثورة ضد مَن يختلف معها بالرأي والرؤية. ثاروا ضد احتكار الوطنية ومنابر الإبداع، فإذ بالنخب تعيد إنتاج الذهنية نفسها، وتحتكر لنفسها حق توزيع شهادات حسن السلوك الوطنية والإبداعية على الآخرين. ثاروا ضد حكم العائلة والقبلية، فإذ بالعائلية والقبلية والعشائرية والمناطقية والطائفية تكاد تكون السلوك الأكثر وضوحاً في يوميات النخب الثورية السياسية والثقافية. ثاروا ضد الرموز والبطريركية ومريديها، فعادت الرموز والأيقونات الثورية لتتناسل وتخلق معها مريدين ومطبّلين، وكأن لا شيء حدث إطلاقاً في الثلاث سنوات الماضية. ثاروا ضد كل ما يضع معيار الكفاءة جانباً، ويعلي من شأن المحسوبيات والعلاقات الشخصية المضادة كلياً لحق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والمواطنة. ورفعت النخب الثورية يافطات تطالب بتطبيق العدالة الاجتماعية، وإعادة الاعتبار للمواطن والمواطنة، لكنها، الآن، تخبئ تلك اليافطات في أدراجها، وتظهرها في المناسبات الإعلامية، بينما سلوكها اليومي مخالف تماماً لكل ما تقوله، بما يشبه حالة الفصام تعيشها هذه النخب السورية في الخارج السوري، الفصام الذي ميّز علاقتها بالسلطة والمعارضة قبل الثورة، ويبدو أنه كان من أول المقتنيات التي حملتها معها في رحلتها إلى المنافي وبلاد اللجوء.

دلالات

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.