في ضيافة "فرع فلسطين"..

08 أكتوبر 2014

مكان الشنق في سجن سوري سيطرت عليه المعارضة (إبريل/2013/Getty)

+ الخط -
خلف القضبان السورية قصصٌ وحكاياتُ بشرٍ، يندى لها الجبين، وتُقصم لها القامة، خلف القضبان السورية آلامُ  بشرٍ، موتٌ مُحتم، فظائعٌ يرتكبها النظام السوري تِجاه معتقلي الثورة. وكل دقيقةٍ يموت سوريون وغير سوريين في هذه السجون المظلمة، سجون الجحيم، تحت التعذيب المُر بأساليب، لا يتصورها العقل البشري.

كنت أنا الكردي المعتقل الذي ذاق الأمرين على يد هذا النظام الظالم، تارةً يعذبونني، لأنني ناشطٌ سوري أنشط في الثورة السورية، وتارة أخرى، يعذبوني لأني كرديٌ أنشط ضد نظام الأسد.

رحلةٌ هي الأطول في حياتي.. سنةٌ ونصف السنة.
 
أول نصف ساعةٍ مِن الاعتقال كانت على يد أول حاجز للنظام السوري، قبل دخولي محافظة الرقة. تم اعتقالي في 16 يناير/كانون الثاني 2013، وأنا قادم من تركيا عِبر منطقة تل أبيض الحدودية، وبمُجرد وصولنا إلى الحاجز، أمرنا عناصرالحاجز بالنزول مِن الحافلة التي كانت تقُلنا، كنا أربعة أشخاص، اقتادونا إلى غرفةٍ صغيرة بجانب الحاجز، ليستقبلنا عناصرُ آخرون كانوا في الغرفة، عناصرُ مشبعون ومدججون بالحقد والشراسة والعدوانية، أشكالهم وأحجامهم أدخلت الرعب في كياننا.

نصف ساعة فقط في تلك الغرفة، كانت كافيةً ليشاهد المرء مرات عديدة، كانت كافية لتموت عشرات المرات. نصف ساعة فقط كانت كفيلة لِتجد الدماء تنزِف مِن أجسادنا، مُمتلِئةً على الأرض والجدران، والشتائم والإهانات القذرة مثل وابلٍ من السهام تمطر علينا.

ثم طالت الرحلة إلى "فرع فلسطين" في العاصمة دمشق. الساعة السابعة صباحاً، وكالعادة، أصواتُ أقدامٍ تمشي وتهروِل في المَمَر، هم الجلادون قادمون. هم الجزارون قادمون. فأين نختبئ، وأين نهرب. بِأصوات هراواتهم التي يدقون بها أبواب الغرف المحشوة بالمعتقلين، يرهبون حتى القمل الأبيض، حتى الصراصير تهرب وتختبئ من رُعبِ أصواتهم وصُراخهم وأصوات أقدامهم وهرواتهم، إِنه وَقتُ الفطور، وأيُ فطور في فرع فلسطين. بمجرد سماعنا هذه الأصوات، نعلم أن الفطور جاء. في هذه اللحظة، لا بد علينا ومباشرة أن نحشر أنفسنا فوق بعضنا، في زاوية الغرفة، وندير ظهرنا إلى الباب، ورؤوسنا وأعيُننا باتجاه الأسفل وأيدينا وراء ظهورنا. هذا قانون فتح الباب، ممنوع أن ننظر إلى وجه السجان، بعد نِصف ساعةٍ، نَسمعُ صوت الباب يُفتح، ثم بعد دقائق يُغلق الباب ثانيةً. وقتها، نعلم أن الفطور أصبح في حوزتنا. بعدها، يأمرنا الشاويش بالجلوس، ليوزع الفطور، والشاويش أقدم معتقل في الغرفة، وما أن ننتهي من الفطور، حتى يبدأ مسلسل التحقيق.
 
يأتي السجان يدق الباب بالهراوة، ثم ينادي أرقاماً، لم ينادوننا بأسمائنا، كنا مرقمين. كنت أحمل الرقم 54 الغرفة 13، عندما يبدأ السجان إذاعة الرقم الذي يريد إخراجه إلى التحقيق، يُخرِج  السجان المعتقل المطلوب للتحقيق، وبعد ساعةٍ أو ساعتين، وأحياناً ثلاث، يعود ذلك المسكين مُنهك الطاقة والقوة، مدمومٌ من رأسهِ حتى أسفلهِ، إزرقاقُ جسدهِ تحت ضربات الهروات تَرسِم لك خارطة التعذيب الذي تعرض له خلال التحقيق.

يمضي الوقت بطيئاً جداً، ونحن مُكدسونَ فوق بعضنا، عددنا في الغرفة كان بين 95 إلى 110 نفراً. كان الشاويش قد قسمنا إلى مجموعات، لكل واحدةٍ سُفرةٌ، يرأسها معتقلٌ قديم. مهمة رئيس السفرة توزيع الأكل وتقسيم أوقات النوم، كنا إثني عشر نفراً في سُفرتنا، وكانت حصتنا من البلاطات خمس بلاطات ونصف عرضاً، وطولاً أربع بلاطات، ستة منا ينامون وأرجلهم مقرفصة، ومزروكون مثل علبة السردين، وأربعة يظلون في وضع الجلوس، وإثنان واقفان، ويتم تبادل الأدوار كل ساعتين أو أربع ساعات.

في أيام، كنا نتنفس الصعداء، حين كان ينخفض عدد الغرفة إلى 90 نفراً، لكن ذلك كان على حساب مأساة كبيرة، هو فقدان عدد من رفاقنا وإنتقالهم إلى ذمة الله، وأحياناً أخرى كان ينخفِض العدد بإخلاء سبيل أحدهم. لكن، سُرعان ما كانوا يفتكون بأناسٍ جدد، ليرتفع منسوب المعتقلين في الغرفة مجدداً.

في فترة اعتقالي، مررتُ بمعتقلين كثيرين، لكل معتقلٍ قصة ثورة، ولكل معتقلٍ حكاية آلام وأحزان، يَلزَمُ للتاريخ آلاف الكيلومترات من الأوراق الملونة، وأطنانٌ مِن الحبر الأسود لكي يدونها، لكي يُسطر الحكاية، ولكي يقول للعالم ماذا جرى يوماً لشعبٍ، نطق بالحرية نشيداً.

avata
هيثم فرحان حسو

ناشط سوري