... في رفض السعوديين "مدارك" التطبيع

... في رفض السعوديين "مدارك" التطبيع

14 مايو 2014

مناهضون لإسرائيل ينادون بمقاطعتها في باريس (مايو 2010 أ.ف.ب)

+ الخط -
لا يساوم على المبادئ الأساسية في أي قضيةٍ المؤمنون بثباتها، ومنها العداء مع المشروع الصهيوني الإسرائيلي، لأنه يستهدف أمتنا، ويحتل جزءاً من أراضيها، فليس لمنصف أن يشيح بعينيه عن أن حق الأمة بفلسطين صريح، ولا يزول مهما هجمت غِيَرُ الزمانِ وطوارقُ الحَدَثانِ. ولكن، يتسبب بخفوت شعلة هذا الحق يأسٌ ناشب في النفوس، بسبب تخاذل الأنظمة العربية تجاه القضية، وترويج قوى الاستكبار العالمية المشروع الصهيوني، بشكل جعل التطبيع مع إسرائيل أمراً هيّناً في عيون الخانعين، إذ إنه محاولة قتل بطيئةٍ للقضية الفلسطينية.
وقد عبّر مغردون في "تويتر" عن غضبهم الشديد من تعاون دار نشر عربية مع كاتب إسرائيلي، في نشر دعوته إلى "تحسين العلاقة" بين الكيان الصهيوني والسعودية. وجاء الغضب بعد نشر الكتاب، ما يؤكد يقظة الوجدان الشعبي في السعودية تجاه القضية الفلسطينية أمام تسولات التطبيع مع العدو. يحذر مؤلف الكتاب من "خطر" الجمهورية الإسلامية الإيرانية على المملكة، ويدعو إلى التطبيع العلني مع الكيان الصهيوني. ومن الخطير ترويج مثل هذه الأفكار التي تدعو إلى قبولنا الكيان الغاصب تدريجياً. وكان العلّامة محمد مهدي شمس الدين قد أوضح أن "مقاومة التطبيع جزء من أيديولوجية الأمة الدينية والقومية، فلا تحتاج إلى تكوين قناعات. وهي لا تستدعي أن نكوِّن في أمتنا قناعاتٍ ليست موجودة عندها، بل نحتاج إلى ترسيخ هذه القناعات وإلى آلية عمل". وأولى آليات هذا العمل مقاومة أيّ حالة في الأمة تدعو إلى قبول وجود هذا الكيان في المنطقة، والذي طالما سعى إلى أن ينتزع الاعتراف بمشروعيته دولةً صهيونية. وبالنتيجة، ليس التطبيع عملاً سياسياً فقط، بل يتشعب اقتصادياً وفنياً وثقافياً أيضاً.
التطبيع مع العدو الإسرائيلي غير مشروعٍ بأي شكل، فهو خيانة للقضية والأمة، وللنضال والكفاح الفلسطيني لاستعادة الأرض. والالتزام بعداء الصهاينة ومقاطعتهم ثابت لدى الإنسان العربي، فضلاً عن المسلم، ولم يتغير، فإسرائيل لا تزال عدواً وكذا مشروعها، لكننا نحتاج تفعيل هذا الالتزام، وتحصينه من الاختراق، وتشكيل أدوات يتحرك بها، ومن خلالها، في مواجهة خطوات التطبيع وإجراءاته، كما يرى العلامة شمس الدين رحمه الله.
تطبيعٌ جاء هذه المرة بشكل ثقافي، وهو أشد وطأة من التطبيع التجاري، تمثل في نشر دار مدارك السعودية كتاب "السعودية والمشهد الاستراتيجي الجديد"، والذي يأمل كاتبه، الصهيوني جاشوا تيتلباوم، في مقدمته، في أن يؤدي (الكتاب) إلى تحسين العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. وهو يعمل مستشاراً للدراسات الشرق أوسطية في جامعة بار إيلان، وتتركز دراساته على السعودية والسياسات الأميركية في الشرق الأوسط.

عرَّفَ الكاتب نفسه، في موقعه الشخصي، بأنه يُقيِّم السياسة السعودية في الخليج، وبشأن عملية السلام بين العرب والإسرائيليين، و"يقدم تقديماً ذكياً العلاقة السعودية الأميركية، ويفضح وجهة النظر التقليدية للسياسة الخارجية السعودية، في قلقها، بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويشرح كيف أن القلق الحقيقي إنما يكمن في المعركة الأيديولوجية التي فتحها ما يسميه الضغط الإيراني في الشؤون العربية.
قراءة صحف العدو مهمة وضرورية للمحللين السياسيين والمختصين وصناع القرار، لفهم الأيديولوجيا الصهيونية وتطوراتها، إلا أن إيجاد تواصل ثقافي تفاعلي مع هؤلاء، بترجمة كتبهم والتواصل مع كتابهم، في إطار ينزع حالة العداء بيننا وبينهم، شأن مختلف. وكان مترجم الكتاب، حمد العيسى، قد عرض على دار جداول للنشر والترجمة والتوزيع نشره، فرفضت لعدة أسباب، أهمها جنسية المؤلف، ولم تكن على علم بها، وأن القانون اللبناني "يمنع نشر أي كتب لمؤلفين إسرائيليين (كذا)، ومخالفة هذا القانون تعرض الناشر للمحاكمة، بجرم مخالفة قرار مقاطعة العدو"، بحسب رسالة إلكترونية سرّبها المترجم العيسى في الإنترنت. ومما يندى له جبينُ الصخرِ أنْ يدعو المترجم، بوقاحة، إلى التأمل في كلمة "عدو" من كاتبٍ يراه باحثاً ومفكراً مرموقاً يعمل زميلاً زائراً في جامعة ستانفورد، وباحثاً في معهد هوفر الاستراتيجي. في إيحاءٍ بأن هذا "العدو" ليس عدواً هنا!
ولا يعقل أن تكون ترجمة الكتاب غير محسوبة العواقب، بالنظر إلى الدعوة التي يطلقها، والمضامين التي يحملها، فلا تجرؤ دار نشر عربية عليها، إلا إذا كانت لا ترى بأساً في التعامل مع العدو الصهيوني، أو أن السياق العربي بدا متهاوياً، ومتناسياً أن العدو الأول هو المحتل في فلسطين. وصريح القانون السعودي يجرّم التعامل، بأي شكل، مع أي شخص يحمل الجنسية الإسرائيلية، وينص في "نظام مقاطعة إسرائيل":
يحظر على كل شخص طبيعي، أو اعتباري، أن يعقد بالذات، أو بالوساطة، اتفاقاً مع هيئاتٍ، أو أشخاص مقيمين في إسرائيل، أو منتمين إليها، بجنسياتهم، أو يعملون لحسابها، أو لمصلحتها أينما قاموا، وذلك متى كان محل الاتفاق صفقات تجارية، أو عمليات مالية، أو أي تعامل آخر، أيا كانت طبيعته.
وتبرر دار مدارك، ويملكها الإعلامي السعودي، تركي الدخيل، نشر الكتاب الذي صدر في العام 2010، ما أقدمت عليه، بحاجتنا، نحن العرب، معرفة إسرائيل، لكن القائمين على الدار، ويا للسخرية، يتعامون عن تعريفنا بحملات وأنشطة شعبية تدعو إلى مقاطعة إسرائيل، ومنها حملة واسعة عالمياً للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، والفلسطينية منها تدعو إلى مقاطعة "النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو النسوي أو الشبابي، أو إلى إزالة الحواجز النفسية"، والمفارقة أن ما يُدعى إلى مقاطعته هو ما قام به مترجم كتاب "السعودية والمشهد الاستراتيجي الجديد"، بترويجه كاتباً صهيونياً، يريد أخذ السياسة العربية إلى مسالك التلاقي مع إسرائيل، أو فلنقل إلى "مدارك التطبيع" معها.
ومن دون الدخول في متاهات تعريفات أخلاقية للتطبيع، فإن أي تصرف أو عمل، مادي أو معنوي، فردي أو جماعي، من شأنه طرح، أو فرض، وجود العدو الإسرائيلي كفكرة طبيعية، من شأنه أن يجعلنا نتخلى عن حقوق الأمة وقضاياها. وما هذا إلا عين التطبيع التي يجب أن تُفقأ، لأنه ينظر إلى سياقٍ اختُرعَتْ فيه فلسطين ثانيةٌ غير التي نعرف، بل التي جرت عليها اتفاقيات الشؤم، مثل "سايكس بيكو" و"كامب ديفيد"، أما فلسطين التي نعرف، فهي العربية الحرة من البحر إلى النهر.
63D590F3-F276-461F-B9BB-22877A40FD44
محمد النمر

مدون سعودي، يدرس صحافة في الولايات المتحدة