في حقيقة تأمين الجنوب الليبي

في حقيقة تأمين الجنوب الليبي

06 فبراير 2019
+ الخط -
تتجه أنظار الليبيين هذه الأيام إلى جنوب بلدهم الذي يشهد صراعاً مسلحاً في أغلب مناطقه، على الرغم من أن هذا الصراع والنزاع ليسا جديدين على هذه الرقعة الجغرافية مترامية الأطراف، إلا أنهما قد يكونان الأسوأ منذ سنوات، خصوصاً بعد دخول القوات القادمة من الشرق الليبي على خط الصراع، والذي ساهم في تأجيج الوضع، وزيادة تعقيد مسألة الجنوب المعقدة أصلاً. وقد أدّى هذا التدخل، في ما أدى إليه، إلى ردود فعل كثيرة، حيث تناولت وسائل إعلام ووسائل تواصل اجتماعي كثيرة في ليبيا تصريحات أهالي ونشطاء عديدين من مؤسسات المجتمع الليبي، استنكروا فيها ما تقوم به هذه القوات من اعتقالات وخطف وإخفاء قسري، بل ووصل الأمر إلى انتهاك حرمات المنازل بذرائع مختلفة، فيما هي ليست إلا عمليات سرقة ونهب وابتزاز، حسب تصريحاتهم. وقد أشار هؤلاء إلى استغلال هذه القوات للتركيبة القبلية في الجنوب، محاولين الاستعانة بقبائل دون أخرى، واعدين إياها بالمساعدة على فرض سيطرتها على القبائل الأخرى. بالإضافة إلى استغلال الوضع المزري الناتج عن الإهمال الكبير الذي يعانيه هذا الإقليم، والذي أدّى إلى نزوح جماعي ملحوظ إلى الشمال، حيث يبحث المواطن عن الأمان، وعن متطلبات ضرورية اختفت تماماً من مناطقه، حتى أصبح الحصول على غاز للطهي، أو حقنة لمريض، أو خبز للأكل، أقرب إلى الحلم الذي يصعب تحقيقه.
وقد أدت هذه الهجرة، بالإضافة إلى إفراغ الجنوب من سكانه، إلى مشكلاتٍ في الشمال الليبي، 
وخصوصاً في طرابلس العاصمة التي كانت ولا تزال المحطة الرئيسية والوجهة التي يقصدها هؤلاء النازحون، والتي تعتبر، مقارنةً بمناطقهم في الجنوب، دافعاً لشد الرحيل إليها، مشكّلةً بذلك عبئاً إضافياً على عاصمةٍ لم تصمم خدماتها ومرافقها لاستيعاب هذا العدد، حتى أصبح الازدحام القاتل إحدى أهم المشكلات التي يواجهها سكانها. كما أدى هذا النزوح، وهذه الظروف، إلى وجود مليشيات أفريقية في هذه المنطقة، ووصل الأمر بها إلى سيطرتها على مناطق كثيرة داخل الجنوب الليبي، متحكّمة في تهريب الوقود والبضائع المدعومة والسلاح، وحتى الذهب المستخرج من مناجم بدائية في الجنوب، في مقابل إدخال الحيوانات الحية والهجرة غير الشرعية، وتهريب المجموعات المسلحة إلى المتصارعين في الداخل، والسطو على المصارف وسيارات النقل بين المدن. وقد صرّح الرائد أكرم البدري، أحد الضباط العسكريين في المنطقة، أن هناك مليشيات تشادية كثيرة في كل المناطق الواقعة جنوب أم الأرانب، وصولاً إلى الحدود التشادية، وسيؤدي استمرار هذا الوضع إلى تغيير ديمغرافي في المنطقة، خصوصاً في ظل هجرة سكان الجنوب إلى طرابلس، وقد أكد ذلك كله عضو البرلمان عن منطقة الجنوب، مصباح دومة، في قوله إن الوضع في الجنوب منفلتٌ للغاية، فالسيطرة للمرتزقة الذين ينشطون في مجالات تهريب البشر وخطف المواطنين، بل والهجوم على القرى والواحات نهاراً.
وعلى الرغم من أن الجنوب الليبي الذي يعتبر سلة غذاء للمجتمع الليبي، ومصدراً للطاقة والمياه، ومصدر رزقٍ لا ينضب لسكانه، إلا أنه لم يتم الاهتمام به، ولم يتم التفكير في إيجاد بيئة مستقرة من خلال الاستثمار وتوطين البرامج التنموية من كل الحكومات التي تعاقبت، والتي اتفقت جميعها على التدخل في فسيفساء مجتمعه المحتوي على قبائل كثيرة، منها أصيلة مستقرة (الأهالي)، وأخرى راحلة وافدة لها امتدادات في الدول المجاورة، حيث ساهم هذا التدخل في إيجاد ولاءات سياسية وقبلية، أدت إلى تعميق النسيج الاجتماعي للقبائل وتفكيكه، مؤدياً إلى حروبٍ راح ضحيتها العشرات، وهي في مجملها امتداد للاشتباكات المسلحة التي تدور في كامل ليبيا من غربها الى شرقها، ومستغلاً الخلافات القديمة بين المكونات الاجتماعية لتأجيج هذه الحروب، لإيجاد منطقة عدم استقرار تنتج بيئةً مناسبة للتدخل، تحت مسميات مختلفة، في ظاهرها الرحمة، وفي باطنها تحقيق إنجازات سياسية وشخصية، تتاجر بحاجة المواطن ومعاناته اليومية .
وملاحظ أن ما ساعد على تردّي الأوضاع والحروب بين هذه القبائل أنه لا يوجد اندماج بين 
هذه المكونات الاجتماعية منذ القدم، ما أوجد قرى وأحياء لها خصوصياتها الثقافية واللغوية، وعاداتها وتقاليدها الخاصة، فالتبو، وهي القبيلة الممتدة على طول الحدود الليبية مع إقليم دارفور السوداني وتشاد والنيجر، أي من الكفرة إلى وادي الفراغ إلى سبها، ومنها إلى مرزق عاصمة التبو، على خلاف دائم ومستمر مع الطوارق الذين يتمركزون على الحدود الغربية مع الجزائر، من جبال أكاكوس إلى أوباري، ومنها إلى غدامس ودرج، وكلاهما على اختلاف مع القبائل العربية التي تعتبر قبيلة أولاد سليمان أهمها وأكثرها عدداً وانتشاراً، والتي لطالما سعى معمر القذافي إلى تحريكها في الجنوب، لتكون شوكة الدولة نحو التبو، وهو ما أدّى إلى خلافات تاريخية بين القبيلتين، ظهرت على السطح بمجرد سقوط نظام القذافي، وما تبعه من انهيار لمؤسسات الجيش والشرطة، حيث لم تجد كل قبيلة بداً (كشأن القبائل الأخرى) من القيام بدور المؤسسة الأمنية في الدفاع عن نفسها، وعن المناطق التي توجد فيها، وشكّلت من أجل ذلك مليشيات قبلية، تعتمد في تسليحها وتموينها على جهاتٍ مختلفة، كل حسب أجندته ومصالحه في المنطقة، والتي تتعهد هذه المليشيات بإدارتها وحمايتها، وتتنوّع هذه الجهات ما بين القوى المحلية والإقليمية، بل 
والدولية أيضاً، والتي تدفع كلها في اتجاه إيجاد وضع تحقق من خلاله أهدافاً ظلت متسترة بغاياتٍ إنسانية، محاولة من خلالها استمالة الولاءات القبلية وشراءها، خصوصاً ذات الثقل الاجتماعي في الجنوب. ولعل تحرك قوات الجنرال خليفة حفتر أخيراً يصبّ في هذا الاتجاه، محاولاً من خلال تدخله توسيع الجبهات القبلية الداعمة من الشرق إلى الغرب، كنوع من التمهيد لأي خطوة محتملة، حال قرّر ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة، أو على الأقل لفرض نفسه طرفاً قوياً يسيطر على مساحاتٍ شاسعةٍ، وتؤيده قبائل مختلفة ومتعدّدة، مستبقاً بذلك التجهيزات لعقد ما يعرف بالمؤتمر الوطني الجامع، والذي ستكون القبيلة حاضرةً فيه بشكل رسمي، حسب تصريحات الأمم المتحدة، وبالتالي فإن استمالة أكبر ما يمكن من هذه القبائل ستكون بمثابة خطوةٍ مهمةٍ لتحشيد دعم قبلي مؤثر.
وبذلك، يمكن القول إن الجميع، بمن فيهم المجتمع الدولي، يتاجر بهذه القضية، محاولاً أن يحقق مكاسبه الشخصية والاستراتيجية داخل هذه المساحة الجغرافية المهمة، والتي بالإضافة إلى أنها مصدر للغاز والنفط والماء، فهي تعتبر منطقة مهمةً، تربط دولاً عديدة تتشابك مصالحها، وتسعى إلى بسط نفوذها وسيطرتها، مستغلين القبيلة أداةً لتوظيف التحالفات السياسية والعسكرية، وكسب مصالح خاصة، حتى وإن اتخذ تأمين الجنوب ورفع معاناة المواطن غطاء لذلك.