فوبيا الرواية العربية

09 يناير 2015
+ الخط -
منذ عشرين عاماً، لم أقرأ بشكل متحمس ومنتظم رواية عربية. قد يبدو الموضوع إحساساً مريضاً، أو مشوشاً، بأن زمار الحي لا يطرب، لكن ذلك غير صحيح، وفق تحليلي شعوري ونقاشاتي مع ذاتي. في الرواية غير العربية (انظروا التعبير كم يظهر وكأنه اغتراب تام)، أدخل إلى عتبة الصورة الرواية، متحمساً من دون أن أكون متأكداً من رداءة عالمها الروائي أو جماله، ومن دون أن أعرف أي شيء عن تاريخ كاتبها وإنجازه وسمعته في بلده، وحتى اتجاهه الروائي. يكفي أنها غير عربية، لألجها بمتعة متوقعة. تفتّح وعيي الروائي فلسطينيّاً مع إميل حبيبي وغسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا، ثم تحرك باتجاه الرواية العربية، المصرية تحديداً، نجيب محفوظ وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان، وانتشر في بلاد عربية أخرى، محمد شكري (المغرب)، هاني الراهب (سورية)، عبد الرحمن منيف (العراق)، محمد المسعدي (تونس)، وبلاد عربية أخرى.
لكن، ظل الثلاثة العمالقة الفلسطينيون الخالدون، (جبرا وإميل وغسان)، عالقين في رأسي وروحي (ربما بالحكم والضغط الهائل للموضوع الكفاحي والوطني). حتى وأنا أقرأ رواية عربية، أو غير عربية، اعتقدت، أول وهلة، أنني راغب عن القراءة المتحمسة لغيرهم، ملأوني بالحماسة الإنسانية والإثارة الذهنية والوعي بالتغيير والجماليات الكتابية. حدث التخلص الجمالي منهم مع نضوجي وتقدم سني، فيما بعد، حين عرفت أن الثلاثة الجميلين ليسوا سوى شجرات باسقة في غابة واسعة اسمها الكتابة الروائية، كان يوسا وماركيز وديستوفسكي وروث وتشيخوف قد اقتحموا روحي بشكل هستيري، وهناك عرفت أن الحياة ثمينة وممتعة جدّاً مع قراءة الروايات غير العربية، وأن ثمة نكهة مختلفة فيها، ولم أعرف حينها سبب اختلاف النكهات. اعتقدت، أول وهلة، بأن كل شيء غريب لذيذ، وأن الموضوع لا يخرج عن كونه مللاً من المحلي، أسماء وأمكنة وأحداثاً، وما يشبه انبهاراً بسائحة شقراء، تتجول على شاطئنا نصف عارية، لكني استنتجت، مع الأيام وخبرة القراءة، أن الرواية غير العربية، وخصوصاً الأوروبية، تعطي روحي سبباً للرقص ومراجعة خبراتي، والحزن والنشوة الداخلية الغريبة، والرغبة بالابتسام والتفكير العميق والبكاء في آن.
انقطاعي الواعي والساخط عن الرواية العربية تماثل وتزامن مع انقطاعي عن مشاهدة الأفلام والمسلسلات التلفزيونية العربية، هل سبب الانقطاعين واحد؟ رحت أفكر: يا إلهي، إنهم يتحدثون عن المواضيع نفسها وباللغة والأسلوب نفسيهما. أستطيع أن أستنتج نهاية الرواية العربية والمسلسل العربي والفيلم العربي والمسرحية العربية، من أول مشهد أو عبارة. في الرواية أو الفيلم الأجنبي، أدوخ وأنا أفكر، أدوخ وأنا أستنتج، وأربط، وأقارن، ذلك ما أبحث تماماً عنه: أن أدوخ، تلك الدوخة الفنية الجميلة التي تثري روحي، وتعمق علاقتي مع ذاتي، وتكشف لي أبعاداً أخرى في الحياة. تذكرت مدارسنا العربية التي تخلو مناهجها من النقاش والنقد الذاتي والانفتاح على العالم، وقيم الربط والمقارنة والتفكيك، فازددت يقيناً بأن المشكلة تبدأ من المقعد المدرسي، وأن الروائي العربي أو المخرج العربي والممثل العربي ما زالوا على مقاعدهم الدراسية يحفظون الدرس نفسه، ويتلقّون المعلومات بصمت تلقيني مرعب.
لكن، ما هذا التعميم الأهبل؟ ما هذه النفسية الاقصائية التدميرية الهوجاء؟ ما هذه الرعونة الساخطة في التفكير واتخاذ القرارات؟ هكذا، بهدلت نفسي، وأنا أناقشها بغضب، ألا يمكن أن يكون هناك أفلام جيدة، ومسرحيات وروايات عربية تخرج عن الخراب السائد؟ بالطبع هناك، لكنها قليلة جدّاً، وتشبه الطفرات. المشهد العام بائس جدّاً، وراكد، المتحمسون للمشهد العربي العام أظنهم منقطعين بشكل محزن عما يحدث في العالم، العالم الذي يترجم آلاف الكتب سنويّاً، العالم الحر الذي يحترم كرامة الإنسان وذهن الإنسان وجسد الإنسان، علينا أن ننفتح على العالم، لنعرف أين وصل حالنا، تلك هي المسألة، ذلك هو الموضوع كله.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.