فلسطين و"أوسلو" والمحكمة الجنائية الدولية

فلسطين و"أوسلو" والمحكمة الجنائية الدولية

19 فبراير 2020

مقر محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بهولندا (30/7/2016/Getty)

+ الخط -
استند مكتب المدَّعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية إلى عملية واتفاقات إعلان المبادئ بين منظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية (أوسلو) في طلبها المرفوع إلى المحكمة، بموجب المادة 19(3) لإصدار قرار بشأن نطاق اختصاص المحكمة في فلسطين (المشار إليه فيما يلي "طلب المدعي العام"). غير أنه كثيرًا ما يُساء فهم الأساس القانوني المشكوك فيه لعملية أوسلو، وما انبثق منها من اتفاقات، وكثيرًا ما يُعرَض بطريقة خاطئة، سواءً من حيث المضمون أو التطبيق. يَرِد هذا الفهم الخاطئ في طلب المدعي العام، وينجم عنه قصورٌ في تمثيل الحقوق الفلسطينية والولاية القضائية لفلسطين، سيما فيما يتعلق بالجرائم والنطاق الجغرافي المشمول ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
عملية أوسلو وإشكالاتها
تصافح، في 13 سبتمبر/ أيلول 1993، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، ورئيس حكومة إسرائيل، إسحاق رابين، في حديقة البيت الأبيض، بحضور الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، في لحظةٍ عدَّها الحاضرون من دون شك مناسبةً تاريخية. وكانت تلك المناسبة بدايةَ التوقيع على مجموعةٍ من الوثائق (أوسلو الأولى) المنبثقة من عملية أوسلو بين ممثلي دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. يفترض هذا الاتفاق والاتفاقات 
الأخرى (واي ريفر، مدريد .. إلخ) المرتبطة مباشرة بعملية أوسلو (المشار إليها فيما يلي بعبارة "الاتفاقات") التي وقعها الممثلون الإسرائيليون والفلسطينيون حلَّ الدولتين هدفا أساسيا بعيد الأجل، وترتئي استحداث مناطق مؤقتة خاضعة لإدارات مختلفة (مثل المناطق "أ"، "ب"، "ج").
وعلى الرغم من عيوبها، شكلت هذه الاتفاقات الأساس والإطار لمساعي الدول والأمم المتحدة، وحاليًا المحكمة الجنائية الدولية الرامية إلى معالجة الانتهاكات العديدة للقانون الدولي، وإحلال السلام في المنطقة، في نهاية المطاف. وعلاوة على ذلك، شكَّلت عمليةُ أوسلو الأساسَ للمطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، الأمر الذي أثار أيضًا مسألة اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
كانت عملية أوسلو محاولةً غامضة ومعيبة لإحلال السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، تبنّت مقاربةً إزاء القانون الدولي، تقوم على فكرة استثنائية القضية الفلسطينية، الأمر الذي أضعف موقف الحقوق الفردية الفلسطينية، والمطالبة الجماعية بتقرير المصير. وتُعدُّ الاتفاقات قاصرةً من أربعة جوانب على الأقل:
أولًا، لم تنطو العمليات المُفضية إلى تلك الاتفاقات على مشاركة جميع مكونات الطيف السياسي الفلسطيني، ناهيك عن عامة الإسرائيليين والفلسطينيين الذين كان ينبغي، بموجب القانون 
الدولي، أن يحظوا بفرصة لتقرير مستقبلهم من خلال الاستفتاء، مثلًا، إعمالًا لحق تقرير المصير. ثانيًا، لم تتطرّق تلك العمليات إلى القضايا الأساسية المُسببة للأزمة، كما يُقرُّ طلب المدعي العام، وإنما أشارت إليها بمسمّى قضايا "الوضع النهائي" التي ستُحلُّ في المستقبل، وليس من خلال الاتفاقات نفسها. والقضايا المستثناة من الاتفاق هي: القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع الدول المجاورة، القضايا الأخرى ذات الاهتمام المشترك. ثالثًا، يتسم مضمون الاتفاقات المنبثقة عن عملية أوسلو بأنه مُبهم وملتبس للغاية، فيما يتعلق بالتزامات إسرائيل، سيما إزاء القانون الدولي الإنساني والحقوق الفلسطينية. رابعًا، وهي النقطة الأهم، وفّى الممثلون السياسيون الفلسطينيون بمعظم التزاماتهم بموجب الاتفاقات، إلا أن الحكومة والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية لم تفيا سوى بالقليل، الأمر الذي يشكّل خرقًا لمضمون الاتفاقات وروحها، أمّا طلب المدعي العام فلا يُبرزُ هذه الحقيقة، وإنما يشير إليها بإشارةٍ محدودةٍ فقط.
وباختصار، بعد الاخفاقات التي شهدتها السنوات الخمس والعشرون الماضية، لا يمكن اتخاذ الاتفاقات المنبثقة من عملية أوسلو أساسًا متينًا لإقامة الولاية القضائية للمحكمة على الجرائم المرتكبة في الأرض الفلسطينية. وفي ضوء الاختلالات الهيكلية في ميزان القوة، وغياب آليات المساءلة والمحاسبة الحقيقية المستندة إلى القانون الدولي، فإن تلك الاتفاقات لا تعدو أكثر من أنها ترتيبات أمنية تعمل على استدامة الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وتيسير التوسع الاستيطاني، وفرض السيطرة على الضفة الغربية.
الانتهاكات الإسرائيلية
ضمّت إسرائيل، في غياب الالتزامات الواضحة وآليات المساءلة الفعالة، أجزاء واسعةٍ من القدس، وارتكبت عددًا لا يُحصى من الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان،
 وقمعت اللاجئين واستبعدتهم، ودأبت على تحفيز بناء المستوطنات على نطاق واسع. وضمَّت إسرائيلُ كذلك الجولان المحتل، وثمّة مقترحات، سيما في ضوء خطة الحكومة الأميركية المسمّاة "السلام من أجل الازدهار"، لضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية "بشكل قانوني" في محيط المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية.
وبعبارة أخرى، لم تُساهم الاتفاقات العديدة المنبثقة من عملية أوسلو في حل الصراع، بل يُقال إن عدم وضوح الالتزامات الواردة فيها مكنَ من ارتكاب كثير من تلك الانتهاكات. ومع ذلك، وعلى الرغم من تاريخ عمليات السلام الفاشلة هذه، إلا أن المحكمة الجنائية الدولية كثيرًا ما تشير إلى مضامين الاتفاقات المنبثقة من تلك العمليات.
إشارات صحيحة
ثمّة قسم محدد في طلب المدعي العام يندرج تحت عنوانٍ عريض وصائب من الناحية القانونية: "اتفاقات أوسلو لا تمنع تطبيق الولاية القضائية للمحكمة" (القسم ب3). وعلاوةً على ذلك، فإن المدعي العام مُحق، لغايات إثبات الولاية القضائية للمحكمة، في قوله إن الاتفاقات تُعطي السلطة الفلسطينية صلاحيات الحُكم في مناطق إدارية متعددة (الفقرة 65)، وإن الاتفاقات تعني "نقلًا للوظائف ونقلًا للأرض" (الفقرة 66)، وإن مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة تشكل "وحدة مكانية واحدة" (المرجع السابق). ويشير طلب المدّعي العام في مناسبات كثيرة أيضًا إلى تشييد المستوطنات، وإلى تقارير عديدة تُفيد بتضاؤل إمكانية تطبيق حل الدولتين بسبب ذلك.
وفي حين أن المدّعي العام يكرّر الادعاءات الإشكالية بأن السلطة الفلسطينية لا تملك ولايةً قضائية جنائية على الإسرائيليين، أو الجرائم المرتكبة في المنطقة (ج)، إلا أنه لا "يعد هذه القيود.. عائقًا أمام تطبيق الولاية القضائية للمحكمة" (الفقرة 183). وهناك بالفعل شكٌ كبير فيما إذا كانت السلطة الفلسطينية ستملك القدرة أصلًا على ممارسة هذه الولاية القضائية بالنظر إلى سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية كاملة، وبخاصة حدودها. وثمّة تأكيد مهمٌ أيضًا أن "اتفاقات أوسلو لا يمكن أن تلغي حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير" (الفقرة 187).
سرد غير وافٍ
ولكن لا يعكس طلب المدعي العام بشكل وافٍ سجلَّ إسرائيل الحافل من التقويض المتعمد لعملية السلام. ويُعزى بعض السبب في ذلك إلى الاعتماد الكبير في صياغة الطلب على مقالةٍ كتبها يورام دينشتاين، الذي تبدّدت مصداقيته، بعدما انكشف دوره المزدوج في العمل مع 
المنظمات غير الحكومية الدولية ومع وزارة الخارجية الإسرائيلية. وهذا لا يختص كثيرًا بنصوص الاتفاقات، الإشكالية بحد ذاتها، ولكنه يثير تساؤلاتٍ وجيهةً حول تطبيقها وإنفاذها.
باستثناء التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، المُدان في قرار مجلس الأمن رقم 2334، وتأكيد سيطرة إسرائيل على الحدود البرّية والبحرية والجوية للضفة الغربية وقطاع غزة، لا يتطرّق طلب المدّعي العام، أو بالكاد يتطرّق إلى انتهاكات إسرائيل الدائمة لتعهداتها (المحدودة) بموجب اتفاقات أوسلو.
تُرسِّخُ إسرائيلُ احتلالَها العسكري للضفة الغربية بإقامة مئات من نقاط التفتيش العسكرية (لا يذكرها طلب المدعي العام)، وتنتهك حرمة أرض غزة بانتظام من خلال الهجمات العسكرية المتكرّرة وواسعة النطاق (يذكرها طلب المدعي العام ذِكرًا موجزا)، وتعتقل أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني المنتَخبين وتسجنهم، وتمنع تنظيم انتخابات فلسطينية جديدة (لا يذكرها). تُشكِّلُ هذه الانتهاكات، وأخرى مثل الفصل العنصري في إسرائيل، الأساسَ لِما خَلصت إليه لجنة القضاء على التمييز العنصري‏ في ملاحظاتها الختامية لعامي 2012 و2019، وهو أن إسرائيل تستديم نظام "أبرتهايد" شامل. غير أن كلمة "الأبرتهايد،" وهي جريمة ضد الإنسانية، لا ترد بتاتًا في طلب المدّعي العام الواقع في 112 صفحة. بل إن إشاراته عمومًا إلى الجرائم ضد الإنسانية محدودةُ.
خلاصةُ القول إن عملية أوسلو، مضمونًا وتطبيقًا، عاجزةٌ هيكليًا عن تقديم حلٍ دائم أو حتى مؤقت للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين. ومِن المؤسف أن يكون طلب المدعي العام معتمدًا جدًا عليها.
نطاق الولاية القضائية للمحكمة أوسع
يعيد بناء تدخُّل المحكمة الجنائية الدولية على أساسٍ معيب في جوهره (اتفاقات أوسلو) إنتاج المشكلات ذاتها، على الرغم من نوايا مكتب المدعي العام الطيبة في ظاهرها. وبما أن هناك
 زيادة في مستوى الوعي بالمحدودية المتأصلة في اتفاقات أوسلو، وأن هناك أفكارًا أخرى مطروحة لنماذج وأُطر بديلة تعكس الواقع على الأرض بصورة أفضل، فإن من الأهمية بمكان أن تُعامَل اتفاقات أوسلو والاتفاقات اللاحقة بأنها ذات قيمةٍ قانونية مشكوكٍ فيها. إن نطاق الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية أوسع بكثير ممّا يحدده مكتب المدعي العام في طلبه.
وهكذا، لا ينبغي للمحكمة الجنائية الدولية في سياق هذا الطلب أن تحصرَ إدراكها لنطاق ولايتها القضائية بإطار عملية أوسلو المجبول على فكرة استثنائية القضية الفلسطينية. وهذا يشمل حقوق الفلسطينيين الأساسية، ولا سيما اختصاص المحكمة في النظر في الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية بما فيها جريمة الأبرتهايد المُثبَتة ببراهين وافرة.
التحقيق الفعال يستلزم قيادةً مسؤولة
أي تحقيق مستقبلي تُجريه المحكمة الجنائية الدولية سيكون، على الأرجح، عمليةً طويلة ومُضنية، تستنفد الموارد الشحيحة المتاحة لمنظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والإسرائيلية والدولية والقيادة السياسية والهيئات الحكومية. ولهذا فإن وجود قيادة فلسطينية شرعية ومُمثِّلة ومسؤولة مُتطلَّب أساسي لضمان فاعلية تحقيق المحكمة وجدواه.
بالإضافة إلى أهمية هذا العمل الذي تقوم به المحكمة الجنائية الدولية بالنسبة إلى حقوق الفلسطينيين وشمول الأرض الفلسطينية باختصاص المحكمة، يمكن أن تشكِّلَ هذه اللحظة فرصةً للفلسطينيين لتقوية هياكلهم الإدارية والحاكمية ونماذجهم القيادية سعيًا لإدراك مطالبهم بتقرير المصير وإعمال العدالة.
avata
avata
جيف هاندميكر وعلاء الترتير
جيف هاندميكر وعلاء الترتير