16 أكتوبر 2024
فلسطينيو العراق... حكاية منسية
زار صديق بغداد، سأل طلاباً في مدرسة أولية عما تعنيه لهم كلمة (فلسطين)، قال الأول إنها مدينة عربية، وقال آخر إنها بلد في حرب مع العرب، وأجاب ثالث أنها بلد بعيد لا يعرف عنه شيئا!
اكتشف صديقي أن طلبة المدارس الأولية هناك يعرفون عن الخميني أكثر مما يعرفون عن ياسر عرفات، وعن مدينة مشهد وطهران أكثر مما يعرفونه عن حيفا ويافا والقدس، وأن ساحات بغداد ترفع صور مراجع إيرانية، ولا تجد صورة واحدة لشخصية عربية تاريخية، وقد اختفت أسماء شوارع ترتبط بأحداث أو مواقع عربية، لتحل محلها أسماء ذات صلة ببلد آخر، وتاريخ آخر، واكتشف أيضا حذف موضوعات عن فلسطين وعن الوطن العربي من مناهج الدراسة.
راجعت صحف بغداد عبر "غوغل"، فلم أجد أخبارا عن أحداث المسجد الأقصى، ربما باستثناء خبر في زاوية مهملة في هذه الصحيفة أو تلك، ولم أجد خبراً عن حال فلسطينيي العراق، كيف هم الآن؟
من بعيد، يبدو المشهد مثيراً للألم، لا تنقل تفاصيله صحف بغداد الخاضعة لمليشيات السلطة وأحزابها، أو الخائفة منها، لكن الرواة كثيرون، ثمة اعتصام مفتوح لمئات الفلسطينيين أمام مفوضية شؤون اللاجئين في بغداد منذ أسابيع، لا تتحدث عنه الصحف، يطالبون بحل لمن بقي حياً، بعد حملات القتل والخطف والتهجير التي طالتهم، وثمة أعداد أخرى من الفلسطينيين، تعتصم في سفارة فلسطين منذ أسابيع، ولا يسأل عنها أحد.
تريد المليشيات السوداء أن تقايض وجود أي فلسطيني في العراق بالدم أو المال، وقائع كثيرة حدثت، لكن الدولة كانت غائبة. متى كانت الدولة حاضرة؟
ذهلت مما سمعته، وقدّرت أن المسافة بين بغداد والقدس تباعدت منذ التاسع من أبريل/نيسان 2003، إلى درجة أن قضية فلسطين، التي كانت تمثل "القضية الأولى في الوجدان العراقي"، بحسب السياسي العراقي الراحل، الأكثر شهرة، نوري السعيد، تراجعت ثلاثمائة وستين درجة، في السنوات العشر العجاف الأخيرة التي أضافت لفلسطينيي العراق تراجيديا جديدة، في اضطرارهم للنزوح، إثر أسوأ حملة قمع وإذلال يواجهونها في بلد عربي.
هل كفَّ العراق عن أن يكون بلداً عربياً؟
هذا ما قد يخطر في البال في وصف البلد الذي احتضن، قبل سبعة عقود، نحو خمسة آلاف من أبناء قرى مثلث الكرمل ومدينة حيفا، في أول رحلة نزوح بعد نكبة 1948، في واقعةٍ تاريخيةٍ نادرة، ما يزال شيوخ الفلسطينيين يذكرونها، إذ صدر أمر ملكي بنقلهم بحماية قطعات الجيش العراقي، التي كانت تخوض معارك جنين، ليكونوا في ضيافة حكومة العراق وشعبه، باستثناء الشباب القادرين على حمل السلاح، الذين واصلوا مقاومتهم البطولية. بعدها، اتسع حجم الوجود الفلسطيني في العراق، مع وصول موجات أخرى في عمليات نزوح اضطرارية، حتى تجاوز 42 ألفا عاشوا في وئام وسلام في بلدهم الثاني، وحافظوا على صلتهم بأرضهم التي كانوا يمنّون أنفسهم بالعودة إليها في مقبل الأيام.
بدأت محنتهم مع الغزو الأميركي للعراق، ولم تنته بعد، إذ أجبر الآلاف منهم على الهجرة، وما يزال الباقون، الذين لم يتجاوز عددهم اليوم الخمسة آلاف، مستهدفين، على نحو مريع، من المليشيات السوداء، وقوات الأمن الحكومية، بعد عشرات حوادث القتل والاختطاف والتهجير، وتفجير المساكن، والاعتقالات الكيفية، والتهديد بالقتل. وقد أقدمت السلطات على إسقاط صفة اللجوء عنهم، وإلغاء الحقوق القانونية التي كانوا يتمتعون بها، حتى وصل الأمر بوزيرة عراقية إلى أن تدعو لطردهم جميعاً من العراق، بدعوى أنهم إرهابيون.
بعد هذا، لن نستغرب تجاهل الإعلام العراقي محنة الفلسطينيين في العراق، ولن نسأل أطفال بغداد عما تعنيه لهم كلمة (فلسطين)، بل نقول: سقى الله أيام زمان، أيام كان معلمونا يروون لنا في "اصطفافنا" قبل الدرس الأول، صبيحة الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام، حكاية الإنجليزي الشرير(بلفور)، الذي وهب أرضاً لنا إلى اليهود، ليقيموا عليها ما يدعونه "وطنهم المقدس"، وكنا نعاهد أهلنا الفلسطينيين على أننا سنقاتل مغتصبي أرضهم عندما نكبر. وعندما كبرنا، اكتشفنا أن ألف بلفور يقيم بيننا، ويبيع أرضنا إلى الأغراب.