فتى من ذلك الزمان

فتى من ذلك الزمان

27 مايو 2019
(خلال وجوده في بيروت)
+ الخط -

كنت أجلس لوحدي في مقهى القنديل في دمشق في صيف عام 1978 حين دخل شاب يشبهني في الشكل. حياني حين لم يجد أحداً غيري في المقهى في ذلك الصباح الباكر، وعرضت عليه الجلوس معي فوافق. تعارفنا وبعد دقائق أصبحنا أصدقاء تحت شجرة القصيدة. وفي ذلك النهار أخذته لأعرفه على صديقي الكاتب المرحوم جميل حتمل الذي قدمه بعد 24 ساعة إلى نصف أدباء ومثقفي وفناني دمشق.

ذاك الشاب كان الشاعر الأردني أمجد ناصر القادم من بيروت في زيارة ثقافية وإعلامية لدمشق. وفي ذلك الوقت كان يعمل في مجلة "الهدف" الصادرة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

أحسسنا نحن أدباء سورية الشباب في ذلك الاسبوع أن هذا القادم من بيروت يحمل رائحة الفدائيين، وسرعان ما صار واحداً منا، وتصرفنا جميعا على هذا الأساس ولزمن طويل وحتى الآن. وعشنا كما تعيش العائلات الثقافية. نجتمع ونفترق ونلتقي ونتباعد، ولكننا نتقاطع في الكتابة والألم والحنين والمنافي. وحين غادرت سورية نهائيا وذهبت إلى بيروت وجدت بيت أمجد وزوجته هند مفتوحاً أمامي طيلة الوقت.

وصادف يوم ولادة يارا، باكورة أمجد وهند، أن رافقنا هند إلى المشفى وعدنا أمجد وأنا الى منزله في الطابق السابع في طلعة أبو شاكر، ومن شرفة ذلك المنزل كان يصلنا هواء البحر المالح الآتي من منطقة الرملة البيضاء.

في تلك الليلة قرأ لي أمجد مجموعته الأولى التي اتفقنا أن أفضل اسم لها هو "مديح لمقهى آخر"، ولم ننته من ذلك حتى داهمنا الصباح ونحن نردد مع سان جون بيرس "نحن الذين سنخبر البحر كم كنا غرباء في أعياد المدينة".

كبرنا وكبرت الغربة، وخرجنا من بيروت، وذهب كل منا نحو بلد آخر، ولكن أمجد كان يعبر المانش من حين لآخر ليلتقي عائلته الكبيرة في باريس، محمود درويش، خليل وسلوى النعيمي، جميل حتمل، يوسف عبدلكي، صبحي حديدي..إلخ.

حين علمت في الصيف الماضي بمرض أمجد شعرت بأن هناك خيانة تعرض لها هذا الرجل. هكذا من دون إنذار أو تنبيه تأتي الصاعقة. كان أمجد يقود سيارته وحين نزل منها وقع على باب البيت. ولم يخطر له أن المرض اللئيم هو السبب. كان يظن أنه الصداع الذي يعاني منه منذ زمن طويل. وطالما تحدثنا طويلا عن الشقيقة وما تسببه من آلام، ولم نكن نظن أن هذا العدو كان يحفر في رأس الشاعر.

عايشت تحولات هذا المرض مع أمجد منذ أن بات مكشوفا في بدايات سبتمبر/أيلول الماضي، وبدأت رحلة صراع أمجد الفعلية معه، وذات يوم اتفقنا أن نسجل شهادة تلفزيونية يسرد فيها أمجد سيرة مختصرة، نعود فيها إلى محطات من حياته في الكتابة، ولكننا قررنا معا أن نقلع عن المشروع في فبراير الماضي.

أعرف أسبابي وأخمن أسباب أمجد الشاعر والكاتب الذي أرفع له القبعة، ولكني أشعر بندم شديد لأننا لم نفعل ذلك، لاسيما أن أمجد الشاعر أبدى فروسية في مواجهة هذا الطالع الأسود، ولم أجده في زياراتي الكثيرة إلا كما عهدته على الدوام مشتعلا بالشعر، وكانت الثورة السورية تستغرق الكثير من حواراتنا، وأحسست أن أمجد لديه رغبة في تسجيل شهادة خاصة توازي ما جاء في ديوانه الأخير "مملكة آدم".



دلالات

المساهمون