فاتح أكين يعتني بالتفاصيل: صدقٌ فنيٌّ

فاتح أكين يعتني بالتفاصيل: صدقٌ فنيٌّ

13 مارس 2019
داسلر في "القفاز الذهبي": عنف الدمامة (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في "القفاز الذهبي" ـ المُعروض للمرة الأولى دوليًا في المسابقة الرسمية للدورة الـ69 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي" ـ عاد المخرج الألماني التركي فاتح أكين (1973) إلى موضوع العنف، الذي تناوله في "القطع" (2014) بشكل ملحميّ، و"من العدم" (2017). في جديده هذا، ذهب في تناوله إياه إلى أقصى حدّ ممكن.
عنف "القطع" استعراضٌ لتطهير عرقي مارسته جماعة ضد أخرى (الأتراك ضد الأرمن).

في "من العدم"، اقتصر الأمر على حالة فردية، تتمثّل باستعانة الزوجة بالعنف كوسيلة أخيرة، انتقامًا لاغتيال زوجها وابنهما. يُشكل الفيلمان جزءًا من التكوين الثقافي لأكين: ماضيه وحاضره، اللذين ينبشهما بين حين وآخر، بحثًا عن المسكوت عنه فيهما. تناوله للشائك، المتعلّق بماضيه التركي أو بحاضره الألماني، لم يمرّ بشكلٍ عابر، فهناك إعجابٌ وإدانة كبيران "تعرّض" لهما "القطع" و"من العدم"، بخصوص فنيّتهما ورؤية مخرجهما. مع "القفاز الذهبي"، يُتوقَّع أن يكون الأمر كارثيًا، مقارنة بهما، مع بدء عروضه التجارية.

في جديده الأعنف هذا، عاد أكين إلى ألمانيا سبعينيات القرن الماضي. لكن مردّ العنف ليس الموضوع بل العناية الشديدة بالتفاصيل. أكين لم يقدِّم فيلمَ رعبٍ رخيصاً، رغم إجماع كثيرين على بشاعة ما قدّمه. لم يتحدّث أحد عن الفنيّ أو الجماليّ أو الحِرفيّ، ولا عن الوضعية الصعبة للكاميرا في تلك المساحة الضيقة للغاية داخل مسكن القاتل، ولا عن اللقطات المُقرّبة، والإطارات الخانقة، وغلبة اللون البني، والأجواء الناضحة برائحة السجائر، والعرق والقذارة والبؤس الطافح في الأرجاء وعلى وجوه الأفراد، المهزومين نفسيًا بعدما سحقتهم الحرب. هذا كلّه نتاج جهد يُحسب للمُصوّر راينر كلاوسمان أيضًا.

المثير للانتباه أكثر من أي شيء آخر كامن في اعتناء فاتح أكين، ومُصمِّم المناظر تامو كونز، بتفاصيل كثيرة، ليس أقلّها مسكن القاتل. صحيح أن غالبية التفاصيل مأخوذة من الواقع، وتكاد تتطابق مع ما يظهر في ختام الفيلم، من صُوَر فوتوغرافية للقاتل ومسكنه. لكن إعادة إنتاج الواقع، بدقّة بالغة، والإضافة إليه أيضًا، لهما جماليات فنية ملموسة. النقد انصبّ على بشاعة الموضوع، أو سبب اختياره، أو مدى ضرورة إبراز هذا الشرّ كلّه والعنف كلّه على الشاشة الكبيرة. طبعًا، اتُّهم أكين وفيلمه بتشويه المرأة وتكريس العنف ضدها، وبالذكورية أيضًا. اتهامات، وربما لعنات، ستطاول الفيلم لاحقًا. الأمر حدث سابقًا، مع "المنزل الذي بناه جاك" (2018) للارس فون ترير، إلى درجة أن هناك من قارن بينهما، مع أنها (المقارنة) لا تستقيم إطلاقًا.



"المنزل الذي بناه جاك" ليس عن قاتل متسلسل فقط، فهو فلسفي أولاً، بينما "القفاز الذهبي"، ورغم كونه عن قاتل متسلسل أيضًا، لم يَدَّعِ أي شيء نهائيًا، باستثناء الصدق الفني، والالتصاق بما حدث في الواقع. مع هذا، يُمكن تأويل الفيلم وشخصيته الرئيسية، وإعطاؤهما أكثر من معنى: تجنّب المجتمع أو نبذه تلك الشخصيات، أو التعامل معها بناءً على الشكل أو العرق أو اللون، وهذا دافع لكثيرين إلى فقدان اتزانهم النفسي. فيلم أكين لا يحيد عن رؤية سينماه ومفرداتها، بخصوص الشر والعنف والاغتراب وأزمة الهوية.

فريتز هونكا (يوناس داسلر) قاتل متسلسل، ارتكب أول جريمة له ببلوغه 35 عامًا. في 5 أعوام لاحقة، ارتكب 3 جرائم فقط، قبل إلقاء القبض عليه صدفة، منتصف السبعينيات الماضية. عدد جرائمه لا يتيح وصفه بقاتل متسلسل محترف أو مهووس أو مضطرب، فهو (العدد) يكاد لا يُذكر نسبةً إلى الزمن. الجرعة التفصيلية لكلّ جريمة، وإسقاط البُعد الزمني أو إغفاله، جعلا الصورة مشحونة ومكثّفة للغاية. الجرعة صادمة وبشعة ومُنفِّرة وغير مُحتَمَلة للبعض. لكن أكين لم يضف شيئًا من عنده. بشاعة ما حدث في الواقع تجاوز المعروض على الشاشة. لم تكن مهمّته تجميل الواقع أو تحسينه أو تخفيفه، فالمطلوب هو الصدق الفني والحِرفية والإبداع. بهذا، نجح فاتح أكين، على الأقل، مقارنةً بأفلامه الأخيرة.



إقدام هونكا على قتل النساء، خاصة العجائز أو العاهرات، لم يكن مردّه تلك الشابة فائقة الحسن، التي التقاها صدفة ذات نهار، عند خروجه من حانة "القفاز الذهبي". على عكس ذلك، فإنّ تخيّلات هونكا للشابة بيترا (غريتا صوفي شميدت) زائدة، ما أضعف الفيلم والشخصية معًا. صادفها لاحقًا، بينما افتتاح الفيلم أظهَرَ كيفية تصرّفه مع الجثة التي قتل صاحبها، لا مع كيفية القتل أو الأسباب ـ الدوافع. هذا كلّه قبل ظهور بيترا. ربما تكون حالة بيترا تجسيدًا لعجزه كشابّ عن إقامة علاقة مع فتاة أصغر منه أو تبلغ العمر نفسه. بشاعة هونكا ودمامته ورائحته وعرقه المُتفصّد تُنفِّر النساء منه. أزعجه هذا، بالتأكيد. في النهاية، هو مرغوبٌ من نساء دميمات مثله، أو بائسات أو عاهرات مُسنّات. هذا أيضًا ليس دافعًا له إلى القتل.

ما قدّمه المخرج يكشف السبب الرئيسي لانزعاج هونكا، ولثورته العارمة وخروجه عن طوره وإقدامه على القتل: عجز جنسي. في الحانة، يعطف على العجائز البائسات والعاهرات، فيقدّم لهنّ الخمر ويتحدّث معهنّ. أكثر من ضحية استضافها ساعاتٍ أو أيامًا في منزله. لا قسوة ولا دلائل تُشير إلى استدراجهنّ لقتلهنّ. فقط تطوّر النقاش أو احتدام العنف أو العجز عن ممارسة الجنس أو السُكْر، أو هذه كلّها معًا، أدّت إلى ارتكابه الجرائم. شخصيته واضحة، رغم تركيبتها النفسية المعقّدة. ليس مجرمًا أو شخصًا يهوى القتل لمجرّد القتل، أو التلذّذ بالدم أو بتقطيع ضحاياه. إنه أولاً مُدمن خمر غير عادي، بشع ومنبوذ ووحيد، لا أصدقاء له تقريبًا، باستثناء رفاق الشرب. لا شيء في حياته غير العمل والحانة وزجاجات الخمر.

يعي هونكا مشكلته. ذات لحظة، يقرّر التخلي عن الخمر، فيتعذّب، لكنه لم يعد مدمنًا. يبحث عن وظيفة جديدة، ويعثر على إحداها، فيتجنّب الحانة، ويعيش حياة معقولة، ويرتدي ملابس مقبولة. يشعر بكيانه إنساناً للمرة الأولى. ولولا حبّه المفاجئ لرفيقته في العمل، وصدِّها له عندما تبيَّنت حقيقة مشاعره، لما عاد إلى الشرب والقتل مجدّدًا. آخر عملية قتل (خنق الضحية) قدّمها فاتح أكين في مشهد ربما يكون من أهم المَشاهد في أعماله، ومن أبرز مشاهد القتل في تاريخ السينما: صراع حقيقي بين قزمٍ مخمور ضعيف البنية، وعجوز متشبّثة بالحياة. يكاد هونكا يلفظ أنفاسه قبل القضاء عليها. يستغرق الأمر زمنًا أطول من المُعتاد سينمائيًا. هكذا يتمكّن من الإقناع. مشهد صادق، ولمزيد من الصدق، لم يدع أكين الضحية تموت خنقًا، فتمسّكها بالحياة بالغ القوّة، بينما هونكا خائر القوى، ما يضطرّه إلى تهشيم رأسها، بعد إدراكه أنها لم تمت.

"القفاز الذهبي" مأخوذ من رواية بالعنوان نفسه للأديب والممثل والموسيقيّ الألماني هانز شترونك، صدرت عام 2016، وحقّقت مبيعات كثيرة. ورغم أن الحادثة والقاتل معروفان في ألمانيا، والرواية لا تُقدِّم جديدًا، إلاّ أن الصوغ الدرامي الفنيّ جعلها تنال جوائز عديدة. ويُنتظر أن يحقّق الفيلم، المأخوذ عن الرواية لا عن الواقعة الأصلية والتحرّيات والتحقيقات، النجاح التجاري نفسه في ألمانيا، علمًا أن عروضه بدأت نهاية فبراير/ شباط الماضي.

المساهمون