"37 ثانية" لإعاقة الروح والجسد: تحفة منقوصة

"37 ثانية" لإعاقة الروح والجسد: تحفة منقوصة

27 فبراير 2019
من "37 ثانية" لهيكاري (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
يتناول "37 ثانية" لليابانية هيكاري ـ المعروض في قسم "بانوراما" في الدورة الـ69 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"، والفائز بـ"جائزة الجمهور" كأفضل فيلم في هذا القسم ـ مسائل مختلفة، تُختَزل بتساؤلات عن الفرق الهائل بين إعاقة الجسد والروح، وعن أي منهما أفدح وأخطر، وعن حدود الحرية، وعمّا إذا كانت جسدية أو ذهنية أو روحية أيضًا. دراما الفيلم وموضوعه يتّسقان مع الجائزة، لكن السيناريو (للمخرجة نفسها) عَابَه قصورٌ كثيرٌ، خصوصًا في نصفه الثاني.

يُفتتح الفيلم بلقطات مؤلمة، ومع هذا فهي شديدة البراعة ومؤثّرة للغاية وبالغة الرهافة، للفتاة يُومَا تاناكا (ماي كاياما)، التي تبلغ 23 عامًا، والمُصابة بشلل دماغي سبّب لها إعاقة جسدية، وضمور عضلات كثيرة، وألزمها باستخدام كرسي متحرك. 37 ثانية فقط هي المدّة الزمنية التي جعلتها هكذا، كما سيتضّح لاحقًا. تعيش مع والدتها كيوكو (ميسوزو كانو)، التي تظهر في المشهد الافتتاحي وهي تنزع عن ابنتها ثيابها، ثم تُحَمِّمُها. تُعاملها كطفل في أشهره الأولى. لاحقًا، تظهر تاناكا فتاةً ناضجة، في بداية العشرينيات من عمرها، لا تتوفر على أي قدر من الجمال، أو ما يثير الانتباه، بخلاف ما يتبدّى على وجهها من طيبة وبراءة، وسذاجة ربما. يُومَا، عاشقة الرسم الذي تمارسه دائمًا على الورق أو على أجهزة لوحية حديثة، تتمتّع بموهبة كبيرة ولافتة للانتباه، خصوصًا في مجال الرسوم الكارتونية، أو فن "المانغا". جسدها، الذي يُشكّل عبئًا عليها، ويُخضعها لسلطة والدتها واهتمامها المهووس بها ورعايتها، لا يختلف عن موهبتها، التي تصير بدورها، ومع الوقت، عبئًا. فصديقتها توشيا (شنسوكي دايتو) تستغلّها، إذ توزّع رسوماتها وتنشرها باسمها هي. وعندما تحاول تاناكا أن تستقلّ، تُستثار والدتها. وعندما تحاول الانفراد برسوماتها وصناعة اسمها، تواجه عقبات تقف أمام طموحها، ليس أقلّها أن رسمها يشبه، أو يكاد يتطابق ورسم صديقتها توشيا.

أكثر من مرة، وصدفة، تقع عينا يُومَا تاناكا على مجلات ورسومات جنسية. تحاول، باستحياء، تجربة نفسها في هذا المجال. تدخل عالم "إنترنت" وتشاهد، ثم ترسم. لاحقًا، تتوجه إلى دار نشر تعمل في هذا المجال. تسألها المُحرِّرة، مُباشرة وبصراحة: "هل مارست الجنس قبلاً؟"، فتجيبها أنْ لا. تشرح لها المُحرِّرة أنه رغم كون رسوماتها "لا غبار عليها" و"تشي بموهبة حقيقية"، إلّا أنّ الأمر مختلف، خصوصًا عندما يتعلق بالإبداع الحقيقي، وإطلاق العنان للمخيّلة. الموضوع قائم أساسًا على الخبرة الحياتية، والممارسة الفعلية، والتجربة، فهو ليس محض خيال. تقع المُقابلة والنصيحة كالسحر على حياتها.

في مَشَاهد يختلط فيها الهزل بالضحك والسخرية والحزن والأسى والشجن، تحاول تاناكا أن تعيش حياة عاطفية وجنسية، لا تعلم شيئًا عنها. تواعد رجالاً (أصحاء ومُعوَّقين) للتعرّف على تلك الحياة. ترغب في معرفة الجنس، إلى درجة أنها تزور بيوت دعارة، حيث يتعاملون معها باستخفاف، فتطلب خدمة مدفوعة الأجر. مع ذلك، ينتهي الأمر بشكلٍ مأسوي وحزين. صدفة، تلتقي السيدة ماي (ماكيكو واتانابي) وزوجها، أو عشيقها المقعد هو الآخر، وخادمهما. لقاء يغير حياتها كلّيًا.

مع حياة الصعلكة والليل والحياة الحرّة المنفتحة، التي تختبرها ماي وعشيقها، تعرف يُومَا معنى آخر للحياة، لم تعشه قبلاً. تتمرّد على والدتها، التي تصف مشكلتها معها بأنها تخاف عليها وتحميها وترعاها أكثر من اللازم. تترك منزلها. تتوقف عن الرسم لصديقتها تحت اسم مستعار. تحاول التحرّر من كل ما كان يُكبِّلها. في تلك المرحلة من الفيلم، تبدو يُومَا كأنها لم تعد حبيسة الكرسي. فالروح تحرّرت، وتلاها الجسد. التعبيرات جلية على وجهها الضاحك، والثياب التي ترتديها باتت زاهية الألوان.

لو تطوَّرَ السيناريو في خطه السردي نفسه، كان يُمكن لهيكاري تقديم تحفة سينمائية. ليس بسبب عدم تناول مشاكل المعوّقين والمقعدين وغيرهم من ذوي الإعاقات الخاصة سابقًا، بل لأنه لم يتمّ التطرق، إلا نادرًا جدًا، إلى حياتهم العاطفية والجنسية: "لا تخافي، إنهم حتى لا يكترثون بالنظر إليّ"، تقول يُومَا لوالدتها ذات مرّة، عندما تخبرها بقلقها عليها بسبب تأخّرها وهي فتاة.
المشاكل العاطفية ليُومَا تاناكا، والحياة وتكوين أسرة، والجنس، ومدى تقبّل الآخر لهذا الجسد والتعاطي معه، أمور مهمّة للغاية، يتمحور "37 ثانية" حولها. مناقشة المعاناة التي يعيشها هؤلاء، للحصول على حبيب أو شريك أو رفيق أو عشيق، حسّاسة وخطرة، في المجتمعات المتقدمة كاليابان، أو في غيرها. لكن هيكاري مرّت عليها (المعاناة) بشكل عابر، فلم تُلفت النظر إليها.

في المقابل، يروي الفيلم عبر يُومَا تاناكا قصصًا أخرى عديدة، تناولها السيناريو مواربة: والدها المختفي، الذي تبدأ البحث عنه فجأة، فيتضح أنه متوفٍ، ويخبرها عمّها عمّا حدث، ويذكر صدفة اسم شقيقتها، فيُدهش عند معرفته بجهلها بأن لها شقيقة سليمة البنيان، تعيش في تايلاندا وتدرِّس. لماذا لم تخبرها والدتها؟ هذا دافع للانتقال إلى تايلاندا، حيث تلتقي الشقيقتان، فتعتذر الأولى للثانية عن تقصيرها، وعدم رغبتها سابقًا في الاعتراف بها كشقيقة، أو تذكّرها حتى. تتصالحان، وتتواعدان على اللقاء. تعود يُومَا تاناكا إلى منزلها، وتشكر والدتها. ثم تزور المُحرِّرة لشكرها على دفعها إلى تغيير حياتها، فإذا بالمحرّرة تهتمّ بتبنّي موهبتها، وتكون النهاية سعيدة، بعد إضاعة المخرجة الخيوط التي يُمكن بسهولة أن تنسج منها فيلمًا أهمّ إبداعيًا، وأعمق إنسانيًا ونفسيًا.

باختصار، فإن جزء تايلاندا يُدعى "انزلاقًا حادًّا" إلى الميلودراما.

المساهمون