غزّة وأحفاد بن العلقمي

غزّة وأحفاد بن العلقمي

29 اغسطس 2014
+ الخط -


تعدّ ظاهرة تصفية المتعاونين مع العدو الصهيوني، من أبرز الظواهر التي تنامت في خطٍ موازٍ لتنامي الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وهزّت الساحة الفلسطينية، وأحدثت فيها تغيّرات حادة، وهي من أكثر القضايا التي حاول العدو استغلالها سياسياً وإعلامياً، على الصعيدين المحلي والدولي، بهدف تشويه حركة الانتفاضة الشعبية، وإلصاق تهمة الإرهاب والوحشية بالجماهير الفلسطينية المنتفضة.

وقد نشط الساسة الصهاينة في الاسترسال بالحديث عن الفلسطينيين الذين يقتلون بعضهم بعضاً، ومنحت وسائل الإعلام الصهيونية هذه القضية تغطية واسعة، ومن وجهة نظر أحادية، وكان للتلفزيون الصهيوني حظ الأسد في هذا المجال، في لقاءاته التي كان يجريها مع بعض عائلات الذين جرى قتلهم على خلفية الاشتباه بتعاونهم مع سلطات الاحتلال.

نذكر ما سبق، ونحن نتابع الأخبار المتواردة من غزة عن إعدام فصائل المقاومة في القطاع قبل أيام، لعدد ممّن جرى الإمساك بهم في أثناء تجسسهم وتخابرهم لصالح العدو الصهيوني، حيث أطلقت الفصائل حملة سمّتها "خنق الرقاب" لملاحقة العملاء والمتخابرين ومعاقبتهم بالعقوبة الحازمة التي يستحقونها، وهي القتل.

ويسأل الفلسطيني بمرارة: هل يُعقل أن يتواطأ فلسطيني مع العدو في قتل أخيه، في وقت يواصل فيه هذا العدو عدوانه الذي لم يسلم منه الأطفال الرضّع والفتية والنساء والشيوخ والشباب، حتى الحجر والحيوان والطير؟

ويجب التأكيد على أن ظاهرة العملاء والجواسيس، بمختلف أشكالها ومسمياتها، موجودة منذ فجر التاريخ، وهي من الظواهر التي ترافقت مع تطور المجتمعات على مر العصور، خصوصاً تلك التي وقعت تحت حكم المحتل الأجنبي.

وعند البحث في صفحات التاريخ، نجد أمثلة كثيرة، تُصنّف، اليوم، على أنها أحد الأفعال التجسسية والخيانية، فهذا يهوذا الإسخريوطي، أحد تلاميذ السيد المسيح، يُرشد أحبار اليهود إلى مكان اختباء أستاذه في مقابل ثلاثين قطعة من الفضة.

وهذا مؤيّد الدين العلقمي، وزير الخليفة العباسي المستعصم، رتّب مع هولاكو، بمعاونة نصير الدين الطوسي، قتل الخليفة واحتلال بغداد عام 1258، على أمل أن يسلّمه هولاكو إمارة المدينة. كما عرف القائد الفرنسي نابليون بونابرت أهمية الجاسوسية، فقال: "إن جاسوساً واحداً في المركز الملائم، أفضل من عشرين ألف جندي في ميدان المعركة".

لذلك، علينا القول إن انحراف القلّة لا يشين جهاد الشعوب ولا سمعتها. وقد مرّت بمختلف الأوطان أحداث تاريخية عديدة، جابهت فيها الأعداء بكل شجاعة وتضحية، ومع ذلك، برز من بين صفوفها مَن هادن هؤلاء الأعداء، وأرشدهم، أو سار في صفوفهم، ومع ذلك، استمرت السمعة الأصيلة للشعوب مثلها الأعلى، ولونها المشرق الجذاب، وأصبح تاريخها النضالي منارة يُحتذى بها، في مقاومة الاحتلال.

تعرضت فرنسا لغزو هتلر الساحق، وركعت باريس، مدينة النور، تحت نير الاحتلال، خاضعة مستسلمة، ووقّع الماريشال فيليب بيتان صك الاستسلام، وطوال أربع سنوات، كانت جموع الفرنسيين في الخارج تكوّن حركة المقاومة ضد الغزاة، وكانت حركة المقاومة في الداخل تتزايد وتنمو مع وجود فريق ضالع مع المحتلين، كان هناك مَن سالمهم، وقدّم لهم الغذاء، ومَن قدّم لهم المعلومات والإرشاد ومخازن السلاح، بما يشكل انحرافاً وخيانة بالمعنى الوطني.

وبريطانيا، حين سلّط هتلر جموع طائراته لدكّها بالقنابل، وحين أرسل جيوشه تدمر القارة الأوروبية، حيث رحلت جيوش بريطانيا تجر أذيال الخيبة، واضطرهم هتلر إلى أن يستعملوا البواخر والصنادل والأخشاب، هاربين من دنكرك، وحين عاش شعبها في الأنفاق شهوراً طويلة، كان أحد أبنائها يذيع من برلين، كل مساء، أن النظام البريطاني يجب أن يزول، وأن ألمانيا مُرسلة من العناية الإلهية.

وما يُطلق عليهم في الجزائر بـ"الحركيين"، وهم الجزائريون الذين كانوا مجندين في صفوف الجيش الفرنسي إبان الثورة الجزائرية، وقد استعملتهم فرنسا في قمع المجاهدين الجزائريين، والتجسس عليهم، وبعد انتصار الثورة الجزائرية، أصبحت هذه الثورة مثلاً تحتذي به الشعوب، وتستمدّ منها أسلوب كفاحها، ولقّبت الجزائر بلد المليون ونصف المليون شهيد.

ويتساءل الفلسطيني مرة أخرى: لماذا ظهرت ظاهرة العملاء بوضوح شديد بعد دخول السلطة الفلسطينية إلى الأراضي المحررة عام 1994؟ مع العلم أن هذه الظاهرة قد تم القضاء عليها في الانتفاضة الأولى حيث هرب قسم منهم إلى داخل إسرائيل، والباقي ذهب إلى المساجد لإعلان التوبة.
 
هل كان لتصاعد الحسّ الوطني ومشاركة الشعب الفلسطيني بكل شرائحه في فعاليات الانتفاضة الأولى، سبب في القضاء على ظاهرة العملاء؟ ولا أحد ينكر أن اتفاقية أوسلو من أهم العوامل التي شكلت حماية للعملاء، ونتيجة لهذه الاتفاقية تحولت السلطة الفلسطينية إلى أشبه ما يكون بالمراقب، ترى العملاء وتعرفهم، لكنها، في الوقت نفسه، لا تقوى على محاسبتهم، وفي حالات نادرة، قد تلجأ إلى اعتقال بعضهم، ولكن، سرعان ما تطلق سراحهم.

جلبت هذه الاتفاقية مظاهر لا تمتّ إلى عادات المجتمع الفلسطيني وتقاليده، وبعيدة عن مبادئ الثورة والقضية الفلسطينية التي قدّم لها شعبها الشهداء والجرحى والمعتقلين، ومع ذلك، لا يشين الشعب الفلسطيني انحراف قلّة ضئيلة من بين أبنائه، في مقابل نصاعة تضحيات هذا الشعب وبطولاته وجهاده.

avata
avata
عـادل أبـو هـاشـم (الأردن)
عـادل أبـو هـاشـم (الأردن)