غزة والعدو .. معركة الذاكرة والمعاني

غزة والعدو .. معركة الذاكرة والمعاني

18 يوليو 2014

نظرات إلى رضيعة استشهدت بالقصف على مخيم رفح (يوليو/2014/الأناضول)

+ الخط -

بين قاموس التخذيل والإرجاف وقاموس العزة والمنعة، ولغة التردي الفاقدة أي معنى من معاني التصدي، يأتى عالم المفاهيم الذي صار ميداناً لمعارك تدور وتتلازم مع كل حدث يحيق بهذه الأمة، من أقصاها إلى أقصاها، وها هو مصطفى صادق الرافعي يكتب في "وَحْي القلم" أن الكلمات كالحياض وكالجيوش، وجب الدفاع عنها، كالأرض والعرض؛ لأنها تنتهك في حرماتها، وتدنس في معانيها. وتحرير الكلمات المغتصبة، والتنبه إلى الكلمات المسمومة، والتعرف على أضرارها، والكلمات الملغومة، فنحذر من آثارها.

ويحتاج ذلك منا رفع الظلم عن الكلمات المظلومة، ورفع الستر والنقاب عن الكلمات الظالمة التي تغسل الأمخاخ جماعيًّا، وتستوطن العقول، فتجعلها مؤجرة، أو مفروشة لحساب ثقافة غير ثقافتنا، انتهاك حرمة معاني الكلمات لا تأتي فقط من معتدٍ من خارجٍ، يحاول أن ينحرف بالمعاني، ويدلس على الدلالات، فتصير الكلمات لا تدل أو ترشد، بل قد تأتي من داخلٍ تهون فيه الكلمات وتُهان، أين نحن من كلمات الكرامة؟‍ وعقلية العزة ونفسية الأحرار، أين مقامنا من كلماتنا، ومقام كلماتنا فينا؟‍

صار عالم المفاهيم بدلاً من أن يقوم بمهمته في البيان، صار مع دخول السياسة على كلمات اللغة في إطارٍ من لغة القوة والمصالح، فأفسدت للكلمات معانيها، وتاهت وغامت مغازيها، وهو أمر شديد الخطورة، وجب التنبه إليه إلى أن أصل المعارك التي نخوضها، والقضايا المختلفة التي نتحارب حولها، هي في أصل معركة المفاهيم التي تشكل الوعي، باعتباره أولى درجات سلم الإرادة والقدرة على الخروج من الغمة والمحنة والأزمة.

بدا لي كيف هي الهوة بين أن يكون المنهج مهنيةً باردةً تموت من خلاله القضايا، والمنهج الحافز للحياة، والدافع للنهوض، فيكسب الأفكار معانيها الحية؟ لا تسوغ لنفسها بمقولة العقل البارد، أو الحياد العلمي، هؤلاء تبنوا قاموس كلمات العدو، وتحدثوا باسمه، وفتّوا في عضد هذه الأمة، إن غفلةً أو إرجافاً، أو تخذيلا.

كتب وليد سيف، في مقالته "غزة الفاضحة معركة المعاني" (فبراير، 2009) "تتأرجح الكتابة بين لغة الفؤاد النازف ولغة العقل الناقد، بين ابتزازين: ابتزاز خطاب عقلاني زائف، يحرّم علينا الغضب الجارف في وجه أبشع صور الظلم والإبادة، مثلما يحرّم علينا بكاء ضحايانا، بصوت مجروح، يليق بالجنازة الجمعية، وكل ذلك تحت طائلة الاتهام بالانجراف وراء العواطف والانفعالات المعطّلة للعقل والتدبير، وبين ابتزاز عواطف متفجرة، متدفقة كالنهر الهادر، تصرخ تحت وطأة الكابوس، بصوت لا يُسمع: إذا كان العقل يحرّم غضب القلب والضمير، فليذهب إلى الجحيم، وإن لم يكن في الوسع أن نتكافأ مع جلادينا في الحياة، فلنتكافأ بالموت.. ولتكن القيامة الآن!".

في إجمال بارع، يستحق أن يدرس فى عالم المفاهيم، وتربى عليه الأجيال، تنشئةً وتذكرةً، تعطي الإشارات والتنبيهات بشأن معركة المعاني في المعجم السياسي للعالم العربي، يذكّرنا بمقال مهم لأستاذنا المرحوم، عبد الوهاب المسيري، حول "مصطلحات العدو": لا تقل "العدوان الإسرائيلي" و"المشروع الصهيوني الإحلالي الاستيطاني الاستعماري التوسعي"، ولا تتحدث، في المقابل، عن اغتصاب الوطن الفلسطيني عام 1948، وعن حق الشعب الفلسطيني في كامل وطنه، ولو من الناحية المبدئية، لأن هذا كله يحيل إلى الخطاب العاطفي الانفعالي "القومجيّ" البائد الذي عفا عليه الزمن، وتجاوزته الظروف، ولكن قل "إسرائيل" وحسب، ومن دون مزدوجتين.


لا تقل "عرب" و"عروبة" و"وطن عربي"، وأقبح من ذلك أن تقول: قوميّة. هذا كله يحيل إلى التجارب "القومجيّة" (لاحظوا الجيم المقحمة هنا للتبخيس والتدنيس)، الفاشلة، وخطابها العاطفي الغرائزي الفجّ، ونظمها البوليسية القمعية التي انتهت بنا إلى الهزائم والكوارث. ولكن، قل منطقة الشرق الأوسط وحسب، التي تشمل أقطاراً ناطقة بالعربية (لكنها لا تشكل أمة) وأقطارا أخرى غير عربية، وفي مركزها إسرائيل.

لا تقل "إسلامي"، إلا لتحيل إلى التطرف والإرهاب والتخلف، وتوظيف الدين لأغراض سياسية. والمفردة الأصوب: "إسلامويّ"، تبخيساً وازدراء. ولن يمنع هذا إعلاميي العار من أن يتناسوا هذا التوجيه الذي يدين توظيف الدين لأغراض سياسية، ليستدعوا، بأنفسهم، فتاوى تحرم الجهاد ضد الاحتلال، بغير إذن ولي الأمر (!)، وتحرم استعمال صفة الشهيد لضحايا الاحتلال، وتحرم صور الاحتجاج الشعبي، بدعوى أنها تصرف عن ذكر الله، وتفضي إلى الفتنة، وتحرم العمليات الاستشهادية، بدعوى أنها عين الانتحار المحرّم. لا بأس في صحوة تقوى مفاجئة مؤقتة، يوظف بها إعلاميو العار الدين لخدمة سياسات الاعتدال (الخنوع والتواطؤ). إنما المنهيّ عنه توظيف الدين لإذكاء روح المقاومة والجهاد ضد المحتل.

لا تقل: مقاومة وجهاد وعمليات استشهادية. فهذه مفاهيم ملوثة بالإرهاب والتطرف ومجافاة الواقعّية السياسية التي يفرضها الظرف. وهي ضد "الاعتدال".

لا تقل "إمبرياليّة" في وصف الولايات المتحدة، فإن هذا يحيل إلى الخطاب اليساريّ الذي يفترض أنه انقضى، مع انقضاء الاتحاد السوفييتي والثورة العالمية. (وكأنّ إمبريالية الولايات المتحدة مجرّد أسطورة متخيّلة، صنعها الاتحاد السوفييتي في سياق الحرب الباردة. أما هذه الهيمنة الأميركية الدولية التي بدأت قبل نشوء الاتحاد السوفييتي، وأثناء وجوده، وازدادت توحشاً بعد انهياره، فلا تكفي لاستعمال صفة الإمبريالية).

لا تفسّر ظاهرة الإرهاب والتطرّف تفسيراً يحيلها إلى المظالم الفاحشة التي اقترفتها وتقترفها الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الكبرى، فهذا التفسير يعني التبرير. ولكن، اكتفِ بالتفسير الذي يردّ هذه الظاهرة إلى عوامل ذاتية ثقافية، تتعلق بالنظم التربوية الدينيّة والخطاب الإسلاميّ بعامة، وإلى غياب مفاهيم التعدديّة وقبول الآخر. وإذ هو كذلك، فإن الذي يتحمل المسؤولية الكاملة عن الإرهاب والتطرف ليس الغرب الليبرالي الديمقراطي التعدّدي، وإنما هو الثقافة العربية الإسلامية السائدة التي تحتكر "صناعة الموت".


ألاّ تكثر الحديث عن الاحتلال بوصفه أصل الداء وأسّ البلاء. (فهذا يستدعي في المقابل تسويغ المقاومة، ويصرف التهمة عن حماس، ودورها في تنفيذ أجندة إيرانية سورية ضد محور الاعتدال العربي، لا ضد الاحتلال!).

وفي المحصّلة، يجب أن يصور الصراع، لا بكونه صراعاً بين قوة الاحتلال والشعب المنكوب المقاوم، وإنما هو أقرب إلى أن يكون نزاعاً سياسياً على حقوق مختلف عليها، بين شعبين اتفقا على أنهما يعيشان على الأرض نفسها!
يلخص مصطفى صادق الرافعى الأمر مبلغاً "ما ذلّت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت، إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثة في عمل واحد: أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجناً مؤبداً، وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً، وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع".

تبدو أهمية ما أشرنا إليه في معركة المعاني والمفاهيم والذاكرة من المساحات الأساسية التي يقوم العدو على تسميمها، أو اغتصابها، أو تصديرها على نحو يحاول أن يملأ دائرة المعاني بخطابه الذي يبرر اغتصابه، ويبرر طغيانه وإجرامه؛ وهو، في هذا، يجعل من الخطاب لدى هؤلاء الذين يهيمنون على تشكيل الخطاب، وصناعته، في بلادنا، فإذا بهم يحملون كلمات العدو نفسها، يمررونها ويزورون بها العقول والمواقف.

إن ما نشاهده، الآن، في غزة ليست معركة طائرات تدك البيوت وتقتل النفوس، ولكنها، قبل هذا وذاك، إنما تحاول أن تدك معاني العزة والمقاومة، وتقصف العقول على نحوٍ، يجعلها مستسلمة خانعة، تستخدم كلمات العدو، من دون التعرف على آثارها في حياة الناس ومواقفهم، إنها عملية متكاملة وممنهجة، لصناعة الخطاب المتعلق بالتخذيل والتوهين، نرى له من الشواهد الكثيرة، سواء في الخطاب السياسي الرسمي من مؤسسات عدة، أو من خطاب إعلامي، يروج تزوير الكلمات وتزييف المعاني، في إطار يترافق مع حالة انقلابية، تقوم بدورها في انقلاب الكلمات ومعانيها، وتحاول أن تغسل الأمخاخ، وتزيف الوعي، وتروج خطاباً ينقل العدو إلى خانة الصديق، وينقل الصديق إلى خانة العدو، في تلاعب خطير بالمواقف والتوجهات.

ومن هنا، تبدو تلك المعركة التي يجب ألا تنسى: معركة الذاكرة.. معركة المفاهيم.. معركة المعاني، إن دفع المعاني العدوة لا يقل أهميةً من دفع العدوان على الأرواح والإنسان والكيان والبنيان والعمران.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".