غزة عن بعد

غزة عن بعد

18 يوليو 2014
"العدوان على غزة"، دينا مطر / فلسطين
+ الخط -

قشعريرة

تأتيك الأخبار دقيقةً بدقيقة. لم يحتج الأمر غير قطعة تصلها بالجهاز، ثم تضع برنامج وورد عربي، فتُمسي كأنك في غزة. بل ترسل وتبثّ أفضل منهم، هم الذين لا يظفرون بالكهرباء سوى ساعات في اليوم.

تتصل زوجتك بالجوّال، لتعرف منك آخر الأخبار، والتحليلات. المسكينة ما تزال تثق بتحليلاتك.

وأنت من ناحيتك، "لا تحط واطي"، وتبالغ في عملك الجديد وكأنك الأَدون عمير رايبوبورت في "معاريفـ"ه.

لا تروقك اللعبة، لكنك مجبر عليها.

وتلاحظ بعد كم يوم أنك لم تعد تنام. لم تعد تأكل. لم تعد تستحمّ. لم تعد تقوم عن الكرسي إلا لقضاء الحاجة أو لإعداد القهوة التركية والمزيد من أخواتها الأوروبيات.

تزورك صديقتك الكتالانية، مع صديقتها اليونانية، مع صديقتها الإيطالية، مع ومع ..، حتى يكاد يكتمل نصاب الاتحاد الأوروبي، في الأستوديو الصغير.

كلهنّ، كلهم قادمون من اليسار بألوان طيفه المتعددة. رفاق حقيقيون. ترتاح لهم، ويخففون عنك تكاليف اللحظة.

يأتون ويذهبون كيلا تحسّ أنك وحيد.

في الحقيقة لم تكن محاطاً بالدفء كما أنت اليوم. كلا، لست وحيداً بالمرة. عصر هذا الخميس تذهب إلى بلاسا كتالونيا في الخامسة، وتكون مظاهرة تقودها ثلاث فتيات مغربيات، وخلفهنّ المئات. يذهبن إلى غراسيا، وتتكلّم معهن أن يعُدن للمكان، ففي السادسة والنصف، ستخرج المظاهرة الكبيرة. وهكذا يكون.

يتجمّع المغاربة والباكستانيون والكتلان والإسبان، منذ الرابعة ويجيء ممثلو برلمان وسواهم، وتنطلقوا.

من الساحة إلى فيالايتانا الطويل إلى قصر الحكومة في سان جاوما. قلب المدينة كله شُلّ وأُغلق المرور.

شيء يعزّر القلب ويكفكف القهر. خاصة مع تلك الهتافات القوية والتنديد الكاسح بفاشيي العصر.

تعود من المظاهرة في العاشرة، وثمة آلاف وراءك باقون.

تعود ويعود حبك للجنس البشري. فتيات يهتفن من أحشائهنّ تنديداً بحكومتهنّ وبموقف أوروبا الاستعماري والرثّ.

نساء يسخرن من آرتور ماس، لمّا زار الكيان قبل فترة، وقال إنه بمثابة نموذج ومثال لما ستكون عليه دولة كتالونيا المستقلة!

وترى المغاربة بحبهم الجزيل لشعبك، وبكاء شاب محلوق نصف الرأس، ويقسم ألا يتزوج إلا فلسطينية.

وترى زهور البرشلونية المولد، اللداوية الجذور، وكيف تعلمت لغتها الأم في البيت والجامعة، وصارت تحكي لهجتها وكأنها لم تغادر اللد.

وترى الأسى. ترى الغضب. ترى القشعريرة السريعة في العيون السوداء، العيون العسلية، الخضراء والزرقاء.

ترى الغيوم، تغطي سماوات الوجوه، مثلما غطت الأعلام واليافطات فضاء المظاهرة.

ويخطب ابن جنين، وابن القدس، وابن الناصرة، وينادونك فتخجل وتهرب.

لا. يكفيك رفع اليافطة. وكم استحيت وأنت ترفعها.

 

شلو

يدكِ الشريفة، حارسة بقائنا، تعبتْ وتغضّنتْ، على هذا التراب. واليومَ، وجدناها شلواً معلّقاً في حديد السقف، بعدما دفنّاكِ ذلك الدفن المقتضب، حذرَ أن تزأر لبؤةُ السماء.

يدكِ هذه، مقصوصة من الكوع. محشورة بين قضيبين عاريين بالإصبع الناقص، والوشم الأخضر أعلى الرسغ. كيف لم ننتبه؟ كيف لم نكرمها فندفنها مع كامل الجسد؟ يا حارسة بقائنا، أنت تعرفين ..، حنانيكِ، إغفري لنا من سمائك المغبرة تلك.

 

قلق

تتصل زوجتك. أرسلوا إنذاراً لعمارة كُلاّب. وتسألها هل أخلوا فتجيب نعم. وتسألها فتقول معظم الجيران رحلوا لبيوت أكثر أماناً.

ـ وماذا تنوين؟

ـ وأين سأروح؟

ـ تظلين في البيت؟

ـ سنظل.

ـ إذن لا تنسي أن تتركي الأبواب والشبابيك مفتوحة.    

ـ نتركها مفتوحة هكذا هكذا بسبب الشوب والعتمة.

ـ الله معكم.

وتخبرك بقصف بيت زميلك الشاعر عثمان.

ـ له صورة مع حفيدته وسط ركام المكتبة.

ـ آه، هذه ثاني مرة يقصفون بيته.

وتنام ويدك على قلبك. فبيت كُلاّب يبعد عشرين متراً فقط عن بيتك.

وهم، إلى اللحظة لم يقصفوه.

هل ينسون؟

يا ليت.

 

جثة

تتصل بجار ثان ردموا بيته. تحاول مواساته أنت الذي لا تصلح لهكذا مهمّة.

تسأله عمّا يحتاج فيقول:

ـ بلدوزر.

ـ بلدوزر من برشلونة!

ـ آا. فكلّما رأيت رديم شقا العمر تمنيت إزالته بأقصى سرعة.

ـ ماذا تقول؟

ـ إنه مثل جثة الميت ياخُوي، تخيّل موت حبيب لك، وتُمنع من دفنه. تخيل بقاءك مع جثته لأيام.

ـ هكذا تشعر؟

ـ أي والله هكذا. أني أمام جثة لا رديم، جثة تناديني أن أكرمها فأسرع في دفنها.

ـ ولم لا تفعل إذا كان هذا يريحك؟

ـ لمَ؟ ومن أين سأظفر بسائق مجنون في هذه الظروف؟


(برشلونة)

المساهمون