عين الهند على مال الصين

عين الهند على مال الصين

31 مايو 2014

رسم ناريندا مودي في جامعة هندية (مايو 2014 Getty)

+ الخط -
تحديات كثيرة، دولية وإقليمية، في انتظار عمل الحكومة الجديدة في الهند. ففضلاً عن مصاعب مد الجسور مع الإقليم، ومع العالم، وتبديد مخاوف أطراف دولية وإقليمية من حكم الحزب اليميني، بهاراتيا جاناتا، ورئيس حكومته، نارندرا مودي؛ هناك المهام الاقتصادية الداخلية التي لن يكون إنجازها متاحاً، بغير أرضية سياسية للشراكة مع الآخرين. فقد أطلق مودي وعوداً كبرى للناخبين: التوسع الكامل والشامل، في البُنية التحتية، وبناء مائة مدينة عصرية جديدة، وإقامة شبكة سكك حديدية للقطارات السريعة، وتنظيف الأنهار، وتحويل الهند إلى بلد صناعي بامتياز، بدل كونه قائماً على اقتصاد الخدمات، وهذا كله يتطلب حجماً هائلاً، وغير مسبوق، من المال الاستثماري!

الخبراء الاقتصاديون في الهند يتوقعون أن تتمكن بلادهم، حتى العام 2060، من الانتقال إلى حال البلد العصري المزدهر، وهذا يتطلب أن تنحو السياسة منحىً يساعد على تأسيس الشراكة مع البلدان الأوفر مالاً، وحث الخطى لبناء الهند العصرية. ويقول هؤلاء، إن البلدين اللذين يمكن الاعتماد عليهما، باعتبارهما يمتلكان احتياطات نقدية هائلة، هما الصين واليابان. لدى الأولى احتياطات تُقدر بـثلاثة تريليونات ونصف التريليون دولار، بينما تمتلك اليابان ما يزيد قليلاً عن تريليون دولار. والبلدان هما اللذان بمقدورهما، مع الهند، قطف ثمار الاستثمار، في المشاركة في إنجاز الخطط التنموية الهندية الطموحة.

المحللون الاقتصاديون الهنود، الذين شرعوا بعد إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة، في وضع المقاربات لخطط المرحلة المقبلة، ركزوا فيما يطرحون ــ مدركين أن الصينيين يتابعون ــ على العقم والخسارة الناجمين عن إبقاء الاحتياطات النقدية الصينية، في البنوك الأميركية، أو في سندات الخزينة الأميركية. يقولون، في هذا الصدد، إن نسبة الربح السنوي من هذه الأموال الهائلة يتراوح من صفر إلى 1%، بينما الدولار الأميركي يخسر سنوياً 4% من سعر الصرف، ما يجعل المال الصيني، بعد ثلاثين عاماً، حفنة من تراب. ويضع الهنود التعليل النظري لفكرة التوجه إلى الصين لتعزيز الشراكة معها، والاعتماد عليها في التمويل الاستثماري لخطط التنمية. يقولون إن علاقة الصين مع الولايات المتحدة الأميركية تتسم بشبه الخصومة سياسياً، ولا وداد كبيراً بين أميركا واليابان، لكن الأخيرة أكبر شريك اقتصادي للولايات المتحدة، بينما السوق الأميركية أكبر أسواق تصدير المنتجات الصينية، بفائض في الميزان التجاري لصالح الصين، يصل إلى ما قيمته 200 مليار دولار سنوياً. وقد جعلت هذه الشراكة من الصين ملكة الأرباح في العالم، لكنها أرباح تتآكل، بسبب انخفاض نسبة الفوائد والأرباح، مع انخفاض سعر صرف الدولار، فضلاً عن العادة الأميركية المقلقة، وهي الإقدام على تجميد الأموال، كلما وجدت واشنطن سبباً خلافياً، أو سياسياً، تراه قوياً، فقد جمدت عدة مليارات للإيرانيين.

بالنظر إلى هذه العوامل، يكتسب منطق التوجه الهندي إلى الصين أهمية قصوى، ولا سيما أن الصين نفسها أصبحت تبحث عن أماكن آمنة، لاستثمار أموالها، على النحو الذي يعود عليها بأرباح حقيقية ومؤكدة، فالخيارات التي أمامها محدودة وغير مضمونة، ولا تستطيع الصين استدعاء أموالها، لضخها في اقتصادها المحلي، على اعتبار أن ذلك يتسبب في معدل عال من التضخم، ويُبدد قيمة المال الذي حصدته من الاستغلال الصارم لطبقتها العاملة.

وقد سبق للصين أن استثمرت جزءاً صغيراً من احتياطيها النقدي في الهند، وهذه ــ الأخيرة ــ أثبتت أنها مكان آمن وجيد للاستثمار، ولا تتخلف عن الاستحقاقات المالية للآخرين، أرباحاً وأقساطاً لقروض، في مواعيدها المقررة. وحتى في أصعب السنوات المالية بالنسبة لها، وهي 1991، رهنت الهند احتياطها من الذهب، لكيلا تتخلف عن تسديد ما عليها. وهناك محفزات كثيرة، منها نسب الفوائد العالية التي تعِدُ بها مقرضيها؛ وآفاق الاقتصاد الهندي التي تبشر بأرباح عالية. بالتالي، يرى المختصون الاقتصاديون الهنود أن هذا هو الوقت المناسب، لكي يعود البلدان، الصين والهند، إلى وضعيةٍ، تساعد على تأمين مصالح متبادلة، وهذا يتطلب من البلدين، أولاً، تسوية المشكلات العالقة بينهما، والذهاب إلى آفاق الشراكة والتعاون.

ولن ينسى رئيس الحكومة الجديد، نارندرا مودي، أنه صعد إلى سُدة الحكم، بنسبة 31% من أصوات الناخبين، وبها حصد 282 مقعداً في البرلمان "لوك صابحا"، لكن هذه المقاعد التي تضاف إليها مقاعد حلفائه وفرت لحكومته قاعدة برلمانية واسعة وقوية، لم تتوافر لسواه من قبل. وبات عليه، بالتالي، أن يبادر بسرعة إلى توسيع دائرة التأييد الشعبي للحكم، بالعمل على تحقيق الوعود التي قطعها على نفسه في حملته الانتخابية. هذه مهمته الرئيسة، وقوامها حصراً الاضطلاع بعملية هندسة مالية شاملة. وسيكون العنوان الأهم لهذه الوجهة جلب المال الاستثماري الذي يمكن أن يوفر 12 مليون وظيفة جديدة سنوياً، تحتاجها الهند، لكي يتحقق لمعيشة الشعب الهندي مستوى أعلى من الحياة. ويُلح المستشارون على رئيس الحكومة الجديد أن يضع نُصب عينيه هدف جلب المال، لا جلب النزاعات الأهلية والإقليمية، وأن يذهب إلى حيث يكون المال المُتاح!
على هذا الصعيد، يصبح تطوير العلاقات مع الصين ذا أولوية حاسمة. وكلما أراد الباحثون تقصي جذور الخلاف مع الصين، تراهم يذّكرون بالتعمية الناجمة عن إخفاء تقرير "بروكس ــ باغات" الذي أعده العسكريون عن خلفيات ووقائع حرب العام 1962 بين الهند والصين، وبقي طي الكتمان. مُنيت الهند بهزيمة مؤلمة في تلك السنة، وعلى إثرها، أشرف قائد الجيش، وقائد الأكاديمية العسكرية الهندية، على إعداد تقرير عن جوانب الخلل والأداء السياسي والعسكري الذي أدى إلى الهزيمة، وظل التقرير الطويل (في مجلدين) حبيس الأدراج، ولم تستفد الطبقة السياسية من عبر يمكن أخذها من أخطاء أداء الحكومة في 1962. وبعد خمسين سنة، أفرجت الحكومة عن فقرات من التقرير، لكن حكومات حزب "المؤتمر" حرصت على الاستمرار في إخفاء التقرير الكامل، وجددت في العام 2010 عزمها على الكتمان، معللة ذلك بحساسية المعلومات التي فيه، ما جعل المعارضة تتهم الحزب الحاكم بأنه يتعمد التعمية بعد كل تلك السنين، لكي لا يؤثر سلباً على حملة راهول غاندي، نجل حفيد جواهر لال نهرو!

في هذا السياق، بالمناسبة، ينبه المحللون الهنود رئيس الحكومة الجديد، نارندرا مودي، من مغبة إغلاق خزانة الأسرار المتعلقة بالنزاع مع الصين، بعد مرور 54 عاماً على حرب العام 1962. فعندما تكون المسألة قضية رأي عام، يتعين على الحكومة أن تأخذ بالاعتبار التأثير الكبير للرأي العام، في تحديد وجُهة السياسات الخارجية، وهذه حقيقة لا تتجاهلها الشرائح الحاكمة في الدول الديموقراطية، وإن كانت لا تتيح للحكومات هامش مرونة أوسع في السياسات الخارجية. وتعلو في الهند، الآن، أصوات تدعو إلى النظر بأهمية كبيرة لتوجهات الرأي العام حيال العلاقة مع الصين. فما حدث في العام 1962، حسب مؤرخين هنود، أن جواهر لال نهرو أذعن لمقترحات التسوية التي قدمها له رئيس وزراء الصين، شوين لاي، آنذاك، وكادت الهند أن تخسر المزيد من الأراضي التي فيها مواضع مقدسة عند المواطنين الهندوس، لولا وقوف المعارضة حجر عثرة في وجه تطبيق المقترحات.

وبموجب لعبة الديموقراطية في الهند، وإن تبدلت المواقع، ستظل المعارضة محل الرهان، لإحباط السياسات الخاطئة المنبثقة عن مناخات حزبية مغلقة. لذا، سيجني الحزب الحاكم الآن "بهاراتيا جاناتا" الفشل في تحقيق طموحاته ووعوده الانتخابية، إن اختار الانغلاق على هواجسه الفكرية وإطاره الحزبي وثقافته، وسيعود القهقرى. فما تتطلبه آمال الهنود، في العهد الجديد، يقتضي، لزوماً، إنهاء النزاع الحدودي مع الصين أينما كان على الأرض وفي البحر. ويفيد التذكير، هنا، بأن إحجام حكومات حزب "المؤتمر" عن تسوية النزاع الحدودي مع الصين لم يكن إلا تحسباً من ردود أفعال القوميين الهنود المتشددين، من خارج الائتلاف الوطني العلماني الذي يحكم. لكن، الوضع اليوم يختلف تماماً، فقد أصبح القوميون المتشددون هم الذين يحكمون، وبات موضع التحدي الذي تواجهه حكومة نارندرا مودي هو أن تختار بين أمرين: الأيديولوجيا ومن ثم الاصطدام بشُح المال الذي يغطي أكلاف مشروعات تنموية طموح، أو ليبرالية سياسية، تؤدي الى حل النزاع مع الهند، وتأسيس علاقات جديدة مع الصين، تقوم عليها شراكة ذات فائدة قصوى للطرفين!

لعل أفضل ما فعله نهرو المبادرة إلى سياسة التقدم الى الأمام، عبر كتلة عدم الانحياز، التي كان من بين منافعها بالنسبة للهند، في عهده، القيام بعملية إنزال سياسي وراء الخطوط الصينية. ويتعين على نارندرا مودي، اليوم، أن يستهدي بهذا المنطق، وأن يقترب من الفكرة الأولى لعدم الانحياز، على النقيض من الطابع الأول لخيارات حزبه التي بدت قريبة من الولايات المتحدة وإسرائيل. وحسبة المصالح وحدها تكفي للجواب عن سؤال: هل ستكون الولايات المتحدة سعيدة، عندما تضع الهند عينها على المال الصيني المحتبس في أوعيتها النقدية؟ وبماذا ستفيد باقات الورود التي أرسلها الأميركيون لنارندرا مودي، قبل أن يبدأ حملته الانتخابية؟ هل ستجر الورود مالاً أميركياً أو حتى مالاً للآخرين، مودعاً في بنوكها وخزائنها، لكي يستثمر في الهند؟

وفي الحقيقة، لم يعد الهنود يفكرون في تحقيق إجماعهم على قاعدة سياسات حزبية ضيقة، حيال القضايا الحاسمة. باتوا يتحدثون، بصراحة، عن خياراتهم بالنسبة للصين: "لا نملك ترف التمسك بأسباب النزاع الحدودي غير المُجدي. لا مجال للتمسك بخطأ أن نرى الوطن قطعاً صغيرة من الأرض، وليس كل الشعب. فلماذا نعتني بهذه القطع الصغيرة كثيراً جداً، أما الشعب ورخاؤه وحياته فنوليه النزر اليسير من العناية، من أجل شريط من صحراء غير آهلة؟"

ثمة فرصة يراها الهنود مواتية، لتسوية النزاع مع الصين، على قاعدة ما يسمى "خط مكماهون" لترسيم الحدود بين البلدين. وفي الثنايا، لا يأمل الهنود في أن تُعيد الهند، بالطرق السلمية، منطقة "آسكاي تشن" التي ضمتها الصين إلى مقاطعة "هوتان". وبالطبع، لا تفكير في وسائل عسكرية لاستعادتها (37 ألف كم مربع). كذلك لن تعيد الصين، منطقة "تشين يانغ" التي ضمتها الصين من ولاية التبت الهندية، ومنحتها حكماً ذاتياً. ومن المفارقات أنه ربما يكون سهلاً على نارندرا مودي أن يُكرّس الإعلان عن تنازل نهائي عن المنطقتين، وهو ما اضطرت إليه الهند عملياً، ولم يجرؤ أحدٌ على التصريح به، لسبب واحد، هو أن غالبية سكان المنطقتين من المسلمين غير المحببين لدى حزب "بهاراتيا جاناتا"!
فالمال، عند الهنود، هو الآن شقيق الروح وموضع الرجاء، وضمانة أن تخطو الهند إلى حياة عصرية لكل سكانها.