عولمة نضالات التحرّر

عولمة نضالات التحرّر

02 مايو 2014

نشطاء لمقاطعة إسرائيل في ماليزيا (يونيو 2010 أ.ف.ب)

+ الخط -

حركات التحرّر حين تطلب اعترافاً من المحتل تقضي على نفسها وتعترف ضمناً باحتلال قالت للناس إنها ترفضه وقامت من أجل دحره، إنها تتحوّل إلى مجرد طرف مفاوض يفاوض على موائد السياسة الدولية بكل اشتراطات هذه الموائد ومتطلباتها.
تابعتُ، أخيراً، على فضائيةٍ إخباريةٍ عربيةٍ برنامجاً حوارياً معنياً بالقضية الفلسطينية. كان النقاش فيها تحديداً عن "المقاطعة الاقتصادية" ضد إسرائيل، أي أنه كان عن نوع من أنواع المقاومة الشعبية التي يمكن أن تمارسها الشعوب من أجل قضاياها السياسية، وربما بسبب تضاؤل خياراتها في هذه القضايا.
بدأ الحوار بضبابية، حيث بدا لدى بعض المتحاورين تمايزاً بين المنتجات التي تتم مقاطعتها، هل هي منتجات كل إسرائيل، أم فقط منتجات المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية (الاستيطان غير الشرعي)؟ أي أن المشكلة ليست مع إسرائيل، بل مع الجزء غير الشرعي من إسرائيل، وهو المستوطنات. كأن هذه المقاطعة مجرد صدى لتوجهات أوروبية ترغب في معاقبة الاستيطان غير الشرعي فقط، مع تدعيم كل أشكال التعاون مع "إسرائيل الشرعية". رقمياً، تبدو المفارقة أكبر، فهذه المقاطعة تتجه لمنتجات أقل من 10% من سكان إسرائيل والذين يقيمون في أقل مناطقها إنتاجيةً واستثماراً، أي أنه من الصعب الحديث عن أي نوع من الضرر الذي يمكن أن تنتجه هذه المقاطعة على إسرائيل.


الحوار امتدّ ليصبح أكثر "تقنية"، حيث أثار موضوع: هل هناك بديل عربي في مثل جودة المُنتَج الإسرائيلي الذي تتم مقاطعته؟ أي أنه أصبح يشبه موضوعاً من مواضيع "الرفاه الاقتصادي"، حيث يبحث أبناء شعبنا عن منتجٍ أكثر جودة، يناسب متطلبات حياتهم المعاصرة. قبل نهاية الحلقة، حدث ما يشبه "اليقظة"، حيث طُرح سؤال: هل هذه المقاطعة الاقتصادية تضر إسرائيل فعلاً، ذات التجارة الواسعة مع الغرب أصلاً؟
في تصوري أن مثل هذه الحوارات تُغرقنا في تقنيات إجرائيةٍ، نقوم بها ضد جار يتطاول علينا، وليس عن استعمارٍ احتلاليٍ تجب إزالته. إنها حالة من نسيان حقيقة الصراع وجذوره والانهماك في تقنيات الصراع وتكتيكاته المناسبة. نقاش كهذا قد يكون سبباً في إنتاج فرقاء عرب، من الصعب أن تجمعهم طاولة حوار واحدة، وإذا جمعتهم، فلكي يكونوا "فرقاء" أكثر. إنها آثار امتداد العولمة، حتى إلى أساليب مواجهة الاحتلال. العولمة حالة راهنة من تشكُّل فضاء عالمي متشابك، وأكثر تأثراً بعضه ببعض، وتأثيراً في بعضه بعضاً، ولا معنى لطرح سؤال: هل نقبل العولمة، أم نرفضها؟ السؤال هو كيف نظل عرباً فاعلين فيها، وأن لا تسطو هذه العولمة على تصوراتنا عن أنفسنا وقضايانا؟ في مثل هذه الحوارات، صارت تحضر عبارات من نوع: "المقاومة السلمية" أو "المدنية"... تكون أحياناً لصالح "نزع العسكرة عن المقاومة"، وهي تحمل، ضمناً، معنى أن العمل الفدائي المسلح الذي طاردته إسرائيل من الأردن إلى لبنان إلى تونس، صار غير مناسب للراهن الدولي، وليس العربي، فالراهن العربي صار، في هذه الاعتبارات، ملحقاً بالراهن الدولي، ليس له إشكالاته الخاصة وظروفه الخاصة وحلوله الخاصة، ولا يملك العرب فيه حتى تحديد سقف مطالبهم، ولا حتى تحديد طرق اشتغالهم بالسياسة وسعيهم إلى التحرر. إن حالة البحث عن "مطابقة الشروط الدولية" في مواجهة الاحتلال ومقاومته هي حالة عبثية ومتناقضة، فالمقاومة لا تظهر لتبحث عن اعتراف خصومها بها، أو حتى عن اعترافات حلفاء خصومها بها.
هذه الحالة تشكلت في فلسطين، واكتسبت زخماً بعد انطلاق مسار التسوية، ما جعل الدكتور عزمي بشارة يقول: "في فلسطين، أصبح حلم حركة التحرر هو أن يعترف بها الاحتلال". هذا البحث عن "هذه المطابقة للشروط الدولية" يحوّل قضية الوطن السليب واللجوء والشتات إلى قضايا من نوع "تمييز عنصري" و"جدار فصل عنصري"... وكأن كل هذه التضحيات التي سكبها الشهداء والأسرى كانت من أجل أن يعيش الفلسطينيون شروطاً أفضل، في كيانٍ كل المشكلة معه أنه يمارس تمييزاً ضد بعض مواطنيه، وأن استجابة بعض مؤسسات هذا الكيان للمطالب السلمية والإنسانية تنهي الإشكال معه. إذا ما كانت هناك أمة تُعرّف ما تتعرّض له على أنه "احتلال"، فلا معنى للنقاش، بعد ذلك، عن مصادر تعطي لمقاومة هذا الاحتلال ورفضه شرعية. حركات التحرّر حين تطلب اعترافاً من المحتل تقضي على نفسها، وتعترف ضمناً باحتلالٍ قالت للناس إنها ترفضه وقامت من أجل دحره، إنها تتحوّل إلى مجرد طرفٍ مفاوضٍ، يفاوض على موائد السياسة الدولية، بكل اشتراطات هذه الموائد ومتطلباتها.
الجزائريون ضد فرنسا، الفرنسيون ضد ألمانيا النازية، الأفغان ضد السوفيايت، الفيتناميون ضد الأميركان... في كل معارك التحرّر هذه، لم يكن الذهاب إلى طاولة السياسة الدولية، إذا حصل ذلك، من أجل تحديد سقف مطالب شعوبٍ تعاني الاحتلال أو الغزو الأجنبي، فهذا محسوم، بل كان من أجل البحث عن طريقٍ يجعل تحقيق مطالب حركة التحرّر أقل كلفة على الطرفين.

 

7DCBCDF9-9B50-4782-AA8C-FEDA3F7106B7
نايف السلمي

مهندس صناعي وكاتب سعودي مهتم بالفكر و الثقافة في الوطن العربي، ومؤلف مشارك في كتاب "في معنى العروبة .. مفاهيم و تحديات".