عوامل هجرة المسيحيين العرب

عوامل هجرة المسيحيين العرب... "المركز العربي" يشخّصها في ختام ندوته

22 أكتوبر 2017
من إحدى الجلسات (معتصم الناصر)
+ الخط -

اختُتمت اليوم الأحد ندوة "المسيحيون العرب في المشرق العربي الكبير: عوامل البقاء، والهجرة، والتهجير" التي نظّمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في مقرّ معهد الدوحة للدراسات العليا، والتي شارك فيها 20 باحثاً عربياً من مختلف التخصصات في العلوم السياسية والاجتماعية. وقد قسمت الندوة على سبع جلسات وحلقة نقاشية على مدى يومَين.

في الجلسة النقاشية التي عُقدت مساء اليوم، أشار مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المفكّر العربي عزمي بشارة، إلى أنّ "موضوع الندوة يعود إلى التاسع من إبريل/ نيسان الماضي، يوم تفجير كنيسة مار جرجس في طنطا، وبنفس اليوم تم تفجير الكنيسة المرقسية في الإسكندرية. تفجيران في يوم واحد، ما يدلّ على أنّه توجد قضية في مصر تحتاج إلى معالجة جذرية، لا تتعلق بوافد وأصيل، فلا الإسلام وافد ولا الأقباط وافدون، هذا شعب واحد".

وأوضح بشارة أنّ "الموضوع كان صعباً ولكن مؤخراً تجرّأنا، ونحن لم نعقد ندوة حوار طوائف، ولا حوار أديان، والباقي كلّه مطروح للنقاش ويُبحث بالمركز ما دام موجوداً والسؤال هل يمكن أن تقاربها بأدوات علميّة أم لا؟ وسابقاً عقدنا مؤتمر الشيعة العرب، ونؤكد على هذا المصطلح.. العرب الشيعة والعرب السنّة". أضاف بشارة: "في كتابي الأخير الذي سيصدر قريباً عن الطائفية مراجع قديمة تصوّر واقع اليوم، نفس الكلمات.. حرب وكنائس وفلانة أسلمت ولكنّها حبست بالدير، فثمّة أشياء متكررة وقضية تحتاج إلى معالجة".

وأكّد بشارة أنّ "حماية الأقليات فكرة استعمارية، والدولة الوطنية فشلت في إقامة الدولة الأمّة، أو الأمّة القائمة على أساس المواطنة، لأسباب عديدة، كما أنّ الإسلام السياسي لم يحلّ مشكلة المواطنة، وموقفه من الآخَر، ومشكلة المواطنة المتساوية يجب أن تُحلّ".

من جهته، حيّا أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، الأكاديمي السوري برهان غليون، عقد هذا المؤتمر، لافتاً إلى أنّ إبقاء الأمور مخفيّة يصعّب السيطرة عليها وإظهار الأمور كما هي، من أجل إلغاء التمييز بين المواطنين. أضاف أنّ الأقليات في سورية وبلاد الشام أكبر عنصر ديناميكي خلق شعوباً نبيهة وذكية وتعترف بالآخر، على الرغم من كل صراعات النفوذ.

في السياق، سأل وزير الخارجية الأردني الأسبق، كامل أبو جابر، في مداخلة له: "ما هو الحل للمسألة المسيحية؟". ليردّ في الوقت نفسه: "المواطنة". يُذكر أنّ الجلسة النقاشية تخللتها مداخلات لباحثين وأكاديميين، أكّدوا أهميّة عقد الندوة وضرورة تسليط الضوء على أوضاع المسيحيين العرب.



وتناولت الجلسة الأخيرة التي رأسها غليون "هجرة المسيحيين العرب وتهجيرهم من بلاد الشام"، والتي قدّم فيها الكاتب والمؤرّخ السوري عبد الله حنا ورقة حول "التجمعات الرئيسة للمسيحيين في سورية وهجراتهم الداخلية والخارجية"، مشيراً إلى أنّ الهجرة في بلاد الشام لم تكن تقتصر على المسيحيين بل شملت المسلمين بسبب طلب الرزق خارج الحدود.

وأوضح حنا أنّ الهجرة في سورية مرّت بثلاث مراحل؛ هي مرحلة الدولة العثمانية ومرحلة الانتداب الفرنسي والمرحلة الأخيرة خلال الهجرة الجماهيرية نتيجة الأحداث الأخيرة التي بدأت منتصف مارس/ آذار 2011. وذكر أنّ الهجرة توقّفت في العهد الوطني، بعد مرحلة الانتداب، وما رافقه من ازدهار وموقف الدولة العلماني. إلى ذلك، تحدّث حنا عمّا عرفته بلاد الشام من هجرات داخلية في عهد الإقطاع، والتي استمرّت حتى منتصف خمسينيات القرن الماضي، وكذلك الهجرة من الأرياف إلى المدن، مؤكداً أنّ الهجرة بلغت ذروتها في سورية في ظل الحرب الدائرة منذ نحو سبع سنوات.

من جهته، تحدّث الباحث الاقتصادي، سمير سعيفان، عن "تأثير مناخات الصراع في سورية منذ آذار/ مارس 2011 في هجرة المسيحيين السوريين"، مشيراً إلى أنّ النظام السوري استخدم رجال الدين المسيحيين للترويج له، لكنّه هدّدهم ولم يقبل موقفاً غامضاً. أضاف أنّ النظام ألّف كتائب دفاع في القرى المسيحية وسعى إلى التقرّب أكثر من المسيحيين مثل التعامل الحسن، حتى يشعرهم بأنّهم مع النظام في خندق واحد.

أمّا عن تأثيرات المعارضة، فأوضح سعيفان أنّ حمل المعارضة للسلاح زرع الخوف لدى المسيحيين، كذلك الأمر بالنسبة إلى رفع الرايات الإسلامية وإلزام تطبيق الشريعة، وهو ما أدّى إلى انحياز أوساط جماهيرية أكبر نحو النظام، وليس حباً به. وأشار إلى أنّ المعارضة السورية قدّمت نموذجاً فاشلاً في إدارتها المناطق التي سيطرت عليها، ليخلص إلى أنّ الظروف الضاغطة خلقت هجرة مسيحية في سورية ولم يكن ثمّة تهجير قسري، وقد ساهم الصراع في سورية وأطرافه على نحو مباشر وغير مباشر بدفع المسيحيين نحو الهجرة أكثر من التهجير.




في سياق متّصل، وفي مداخلته "المسيحيون الفلسطينيون بين الهجرة والتهجير: تجربة قرن"، قال راعي كنيسة الميلاد الإنجيلية اللوثرية في بيت لحم، متري الراهب، إنّ النكبة التي حلّت بالفلسطينيين في عام 1948 من جرّاء احتلال الأرض واقتلاع مئات القرى وتهجير ما يزيد عن 700 ألف فلسطيني مثّلت كذلك نكبة مسيحية بكل المعايير. وأوضح أنّ موجات الهجرة الفلسطينية المسيحية الرئيسية في النصف الأول من القرن العشرين، وتحديداً الهجرة إلى دول أميركا اللاتينية في بداية القرن العشرين، أنتجت الجيل الرابع من هؤلاء اليوم الذي يقارب نصف مليون لاتيني أميركي من أصول مسيحية فلسطينية.

في الجلسة التي عُقدت صباح اليوم الأحد تحت عنوان "المسألة المسيحية في العراق بعد سقوط الموصل"، تحدّث المستشار في المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، يحيى الكبيسي، عن "واقع وتسييس الديموغرافيا المسيحية في العراق" موضحاً أنّ الأقليات الطائفية كانت الأكثر استهدافاً في عملية التهجير القسري، إذ اضطر المسيحيون والشبك والصابئة إلى النزوح والهجرة في أكثر من مرّة نتيجة استهدافهم كأقليات دينية من جهة أو استخدامهم أوراق لعب في الصراع بين الجماعات الطائفية الرئيسيّة من جهة أخرى.

وكشف الكبيسي أنّ عدد المسيحيين في العراق بلغ على اختلاف طوائفهم في إحصاء عام 1947 نحو 149 ألف نسمة، وارتفع في عام 1957 إلى أكثر من 206 آلاف نسمة، في حين وصل في عام 1977 إلى نحو 256 ألف نسمة بنسبة نموّ تقريبية تقدّر بـ 2.14 في المائة. أضاف أنّ التوقعات الواقعية الحالية لأعداد العراقيين المسيحيين تضعهم في حدود 600 ألف نسمة، ما يكشف وهن الأحاديث عن وجود هجرة عارمة للعراقيين المسيحيين نحو الخارج خلال العقود الماضية. وتابع أنّ عدد العراقيين المسيحيين المصوّتين في عام 2014 بلغ نحو 105 آلاف، وهذا يعني أنّ عدد المسيحيين وفق التقديرات الإحصائية تضعهم ما بين 250 و300 ألف، الأمر الذي يدحض أرقام المنظمات الدولية عن الهجرة الخارجية للمسيحيين. ويخلص إلى أنّ ما جرى هو عملية نزوح داخلي لأسباب تتعلق بالمخاطر الأمنية.



من جهته، قدّم الباحث والأكاديمي العراقي، سعد سلوم، مداخلة سلّط الضوء فيها على "المبررات والتحديات والمقارنات المختلفة لإنشاء منطقة آمنة للمسيحيين في العراق"، وقال إنّ قضيّة إنشاء منطقة آمنة للمسيحيين في العراق برزت تحت مبررات عدّة؛ بعضها أمني بدعوى مواجهة تضاؤل الوزن الديموغرافي أو لضمان عودة آمنة للنازحين، وأخرى اقتصادية تتعلق بسياسات إعادة بناء الثقة، الأمر الذي يجذب رؤوس أموال النخب الاقتصادية في المهجر.

أضاف سلوم أنّه على الرغم من أنّ قضية المنطقة الآمنة للمسيحيين أثارت جدالاً سياسياً كبيراً في العراق، فإنّها باتت تُطرَح في سياق عملي جديد بعد استهداف تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" الأقليات في محافظة نينوى وارتكاب مجازر تطهير عرقي وإبادة جماعية ضدّها. ولفت إلى تحديات داخليّة تواجه إنشاء المنطقة الآمنة للمسيحيين تتمثل في الانقسام المسيحي الداخلي الذي يتزامن مع انقسام سياسي واجتماعي حاد بين الجماعات الكبرى في العراق، يأخذ في بعض صوره أبعاداً عسكريّة، في حين أنّه على الضفّة المقابلة تواجه فكرة المنطقة الآمنة تحديات خارجية تتعلق بالتفاعلات الإقليمية والدولية للعراق وطبيعة العلاقة مع القوى الخارجية الكبرى وكذلك تحديات الوزن الديموغرافي للمسيحيين في العراق. وحول المقاربات المطروحة لإنشاء المنطقة الآمنة، قال سلوم إنّها تتمحور حول أفكار مختلفة من قبيل إنشاء محافظة أو محافظة ضمن إقليم خاص أو محافظة ضمن إقليم نينوى.

الجلسة الثانية في اليوم الثاني، تناولت "هجرة مسيحيي الشرق: خطاب القبول والرفض"، وكان أوّل المتحدثين رئيس الرابطة السريانية في لبنان، حبيب أفرام، والذي طالب باسم المسيحيين المشرقيين بحقّ الإنسان في المساواة التامة في الدستور، لافتاً إلى أنّ كلّ نقاش حول مصير المسيحية المشرقية فيه مسؤولية عربية وإسلامية، وأنّهم أبناء الأرض الأصليون والأصيلون، وهم أمام تحدي البقاء، ولا بدّ من التفكير في مسؤولية إدارة التنوّع والتعدد التي يقع جزء كبير منها على القيادات العربية. وسأل أفرام إذا سقط العيش المشترك المسيحي الإسلامي في الشرق فكيف يكون في الغرب؟ وعاد ليؤكد أنّ الغرب هو المسؤول المباشر عن زعزعة الكيانات العربية، "عدا عن احتلال فلسطين. وما زلنا كمسيحيين، دون وجه حق، ندفع أثمان ما يفعله الغرب ممّا لم تكن لنا يد فيه". أضاف إذا كانت المسيحية غير قادرة على البقاء في أرضها فكيف يمكن الحديث عن حوار حضارات؟



من جهته، قدّم مدير الثقافة والفنون السريانية في أربيل، روبين شموئيل، ورقة بعنوان "ما الحل لغير المسلم أمام خيارات: الإسلام، أو الجزية، أو السيف؟"، قائلاً إنّ المسيحيين المشرقيين يهاجرون من الشرق لأنّهم مُهجّرون منه قسراً. ولفت إلى أنّه بعد ظهور الإسلام، تراجع دور ثقافة الآشوريين ولغتهم بسبب صعود اللغة العربية، وقد أسهم الآشوريون في الحضارة الإسلامية، وأغلب سكان أراضي نينوى كانوا نصارى وقد وقفوا مع العرب المسلمين في حربهم ضدّ الفرس.

أمّا الباحث والكاتب المصري شادي لويس، فتناول في مداخلته موضوع "البنية الخطابية للمسألة القبطية في مصر (اضطهاد ووطنية ومواطنة)"، موضحاً أنّ الأقباط بخلاف المجتمعات المسيحية في الشرق لم يدخلوا في صراعات مسلّحة، ولا يوجد تاريخ اجتماعي للأقباط، وكلّ ما نعرفه عنهم هو في مجموعة من الأبحاث عن المواطنة والاضطهاد وما إلى ذلك، مع الإشارة إلى أنّ ثمّة هيمنة لخطاب الاضطهاد على الخطاب والوعي العام للأقباط.

إلى هؤلاء، قدّم الباحث العراقي ماجد حسن علي، ورقة بعنوان "انحسار الوجود وفقدان الهوية: هجرة مسيحيي العراق وسورية بين مواقف التشجيع والرفض، قراءة في خطاب الكنائس والتنظيمات السياسية المسيحية المحلية". وقال إنّ الهجرة الداخلية في العراق بدأت في ستينيات القرن الماضي بسبب أحداث العنف، لافتاً إلى أنّ سيطرة القوميين على الحكم في العراق كانت كذلك من أسباب هجرة المسيحيين الذين اتّهموا بانتمائهم إلى حركات كردية. أضاف علي أنّ ثمّة كنائس كثيرة في أوروبا والدول الغربية الأخرى تشجّع هجرة المسيحيين، والأكثرية المطلقة من الكنائس في العراق وسورية تشجّع على البقاء داخل البلاد، مؤكداً أنّ خطابات الكنائس ليس لها أثر فعلي لإيقاف الهجرة، "و90 في المائة ممن التقيت بهم من المهاجرين قالوا إنهم لا ينوون العودة".

تجدر الإشارة إلى أنّ الندوة أتت استمراراً لنهج المركز العربي في رصد التحوّلات والتحديات التي تواجهها المنطقة العربية في العقد الأخير، وفي ظلّ ما يواجه الوجود المسيحي في المنطقة العربية من "لحظة مفصلية" وقد لقيت حضوراً ملحوظاً من المهتمين والباحثين.