عن التحالف بين الرجعية والفاشية العربية

24 يونيو 2014

كتابة على جدار في شارع في سيدي بوزيد(فرانس برس)

+ الخط -
وسط الضربات المتهاوية على "الربيع العربي"، سواء من القوى الرجعية العربية وأذرعها الفاسدة، أو من القوى الراديكالية "التكفيرية والفاشية" القروسطية، يبدو المستقبل أقل تفاؤلاً، وتتضاءل الآمال بإمكانية الانعتاق التاريخي للمنطقة من ظلام السلطوية والفاشية، والسير في اتجاه الحرية والديمقراطية. هنا، يصبح حتماً على القوى الحية المؤمنة بالحرية والديمقراطية أن تعيد النظر في استراتيجياتها وتكتيكاتها، ليس فقط من أجل إرباك تلك القوى الرجعية، ولكن، أيضاً، من أجل إعادة الأمل إلى ملايين البشر، الراغبين في التغيير والعيش بحرية وكرامة.
المعركة، الآن، لم تعد من أجل السلطة، أو احتكار مصادر القوة المادية والرمزية، وإنما بالأساس هي معركة صناعة الوعي والتاريخ والمستقبل. وما يفعله العسكر في مصر، والداعشيون فى العراق، والسلطويون الرجعيون فى بقية المنطقة العربية، هو بمثابة محاولة لوقف قطار التغيير، الذي انطلق في سيدي بوزيد قبل أربع سنوات، وازداد زخماً في "ميدان التحرير"، قبل أن يصل إلى ليبيا واليمن وسورية، فيجري التآمر عليه وتفجيره. يحاولون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، واستنساخ نماذج بالية للسلطة والحكم، سقطت معنوياً ووظيفياً ونفسياً. يدركون جيداً أن ذلك ليس فقط مستحيلاً، وإنما غير قابل للحياة، لكنهم يحاولون. فبوعزيزي مات، ولكنه أحيا جيلاً بأكمله يرفض الظلم والقهر.
هم جميعا شركاء في الهدف، وإن اختلفت الوسيلة. أليس من الطريف أن ما يجمع هؤلاء، على الرغم من تناقضاتهم الجوهرية، أنهم يحاولون بناء ممالك وجمهوريات للرجعية والفاشية، مرة باسم الدين، وأخرى باسم الوطنية المصطنعة؟ فما الفرق بين إمارة "داعش"، الموتورة دينياً، وجمهورية السيسي الفاشية؟ وما الذي يفصل بين سلطة طائفية في العراق، وأخرى تعتقل وتسحق على أساس الهوية والانتماء الأيديولوجي في مصر، وثالثة تميز بين مواطنيها، وتنزع عن بعضهم حقوقهم الأصيلة، كحق المواطنة والجنسية، كما هي الحال فى غيرها من السلطويات والممالك الرجعية؟
يحاولون وقف عجلة التاريخ، فيتمادون في القمع والعنف والقتل والسحق، حتى يفقد الناس الأمل والقدرة على التغيير. يبالغون فى رد الفعل على كلمة أو مقال حتى يتحقق الردع، ويعاد بناء جدار الخوف. تغيظهم "شارة" أو "علامة"، فيحاولون كسرها، وتربكهم "مجموعة شباب" تتظاهر، فيسعون إلى فضها، ويرعبهم "مسلسل" فيقومون بمنعه، ويزعجهم "قلم"، فيحاولون شراءه أو كسره.

الآن، يتكالب الرجعيون والسلطويون والفاشيون على "الربيع العربي"، يحاولون إفشاله، ويتآمرون على قواه الحية، ويحاولون خنق الأمل في نفوس الشبيبة. ولو كان في مقدورهم، لمسحوا بلدة سيدي بوزيد من الجغرافيا والتاريخ، ولو كان في ميسورهم لاعتقلوا "ميدان التحرير" وحاكموه، ولنسفوا "ميدان اللؤلؤة" وحطموه. يريدون دولاً بلا شعوب، وسلطةً بلا معارضة، وفساداً بلا محاسبة. يقرأون التاريخ من منظور التغلب والقهر، ويرون الشوكة فى العشيرة والأهل.
هكذا كانت الحال فى أوروبا، منتصف القرن التاسع عشر، حين انطلق قطار التغيير بجزيرة صقلية الإيطالية، في يناير/كانون ثاني 1848، ضد الحكم السلطوي لآل بوربون الفرنسيين، وما لبثت أن تلتها في فرنسا، فيما يعرف بثورة "فبراير" من أجل بناء الجمهورية الفرنسية، على حساب الملكية، وحكم الإقطاع الرجعي، وانتقلت، بعدها، إلى ألمانيا والدنمارك وسويسرا وبلجيكا...إلخ.
وقد حاولت القوى والممالك الرجعية وقف سلسلة الثورات، وقمع الانتفاضات، التي كانت تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية، لكنها فشلت فشلاً ذريعا. ولنا أن نتخيل أُسَرَ ونبلاءَ وملكيات، ظلت حاكمة قروناً، تتعرض فجأة لاهتزازاتٍ، تكاد تقتلعها من جذورها، وتلقي بها في جوف التاريخ، ماذا يكون رد فعلها؟ قطعاً ما كانوا ليقبلون بذلك طائعين، فدبروا المكائد، وحاولوا سحق الثوار، مثلما حدث في فرنسا والنمسا والمجر، التي تحالفت جميعاً لإجهاض "الربيع الأوروبي"، لكنهم فشلوا.
الآن، يتذكر الأوروبيون تاريخهم، فيعظمون تضحيات شبابهم وفلاحيهم وعمالهم، ويسخرون من سذاجة حكامهم و"ممالكهم"، الذين حاولوا إجهاض التغيير، ففشلوا، ويروون لأبناءهم هذا التاريخ، فيعترفون فيه بالخطأ، ويقرون فيه بهزيمة الرجعية والسلطوية. وسوف يأتي اليوم الذي يتندر فيه أحفادنا على "داعش" و"السيسي" و"ممالك" الرجعية والفاشية، التي سوف يسقطونها بثباتهم وآمالهم وذكائهم.
يدرك الرجعيون العرب أن التاريخ ليس في صفهم، وأن الشعوب لم تعد تخشاهم، وإن صمتت على بطشهم. يعلمون جيداً أن سهم التغيير قد انطلق، وسوف يصل يوماً ما إلى صدور أنظمتهم. يحاولون وقفه، أو تغيير وجهته بالمال والسلاح والإعلام. لا يدرك هؤلاء أن الثورة فكرة، والأفكار لا تموت. وأن التغيير جولات، تخسر إحداها لتكسب الأخرى. وأن من ذاق طعم الحرية ولو لبرهة، لن يقبل الاستعباد والقهر.

 

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".