عسكرة القطب الشمالي والمناورات الأطلسية: روسيا هي "العدو"

عسكرة القطب الشمالي والمناورات الأطلسية: روسيا هي "العدو"

10 نوفمبر 2018
من تدريبات الأطلسي في النرويج (جوناثان ناكستراند/فرانس برس)
+ الخط -
كشفت المناورات العسكرية الأضخم لحلف شمال الأطلسي منذ الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) وحقبة الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، في النرويج (من 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى 7 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي)، وتحديداً في أقصى الشمال بمناطق تروندهايم، عن توتر روسي - غربي على جبهة جديدة في القطب الشمالي. رسائل الأطلسي من المناورات والتمارين العسكرية، وحتى بتسميتها "الرمح مثلث الرؤوس" (ترايدنت جنكشور 2018)، موجّهة إلى روسيا، خصوصاً بمشاركة دولتين غير عضوين في الحلف للمرة الأولى، هما السويد وفنلندا المتشاطئتان في البلطيق المتوتر منذ 2014 واللتان واجهتا تحديات روسية متكررة. ما يعتبر تحدياً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أكد في أكثر من مناسبة رفضه التقاربَ الدفاعي بينهما وبين الأطلسي، بل هدد بوضوح بأن بلده سيتدخل لمنع انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف.

وتندرج المناورات في سياق التنافس الغربي-الروسي حول المصالح التجارية ومصادر الطاقة والنفوذ الجغرافي في المنطقة القطبية الشمالية، المتحولة منذ أعوام إلى جبهة جديدة بين الطرفين. حتى أن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، النرويجي ينس ستولتنبيرغ، قال في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي إن "الحلف الأطلسي يتقدم شمالاً في المنطقة القطبية ولن يغادرها حفاظاً على مصالحه". وعلى الرغم من تأكيده أن "التدريبات ليست موجهة ضد أحد"، إلا أنه أكد في المقابل أنها "مناورات تستند إلى المادة الخامسة من ميثاق حلف الأطلسي (الذي يعتبر أن أي هجوم ضد دولة عضو يُعتبر هجوما على كل دوله)"، ما يعني صراحة أن لا أحد في القطب الشمالي قادر على تهديد دولة عضو سوى الجار الروسي. وصرّح ستولتنبيرغ في مؤتمر صحافي مشترك مع وزير دفاع النرويج، فرانك ينسن، في نهاية الشهر الماضي: "نحن في مواجهة أكبر التحديات على مدى جيل كامل".

وفي سياق حديث ستولتنبيرغ عما سمّاه "عدوانية الحرب السيبرانية باتت مهددة لدول الأطلسي"، بدا عملياً أن المناورات العسكرية الضخمة جاءت أيضاً بهدف "تحقيق عنصر كلاسيكي عسكري في تمارين النرويج لاستعادة مناطق يخسرها الغرب في معركة عسكرية بمساهمة قوية من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا"، بحسب ستولتينبيرغ نفسه، الذي أوضح مقاصد الانتشار الأطلسي في المنطقة القطبية الشمالية بالقول: "إن المسألة لا تتعلق بالتصادم مع روسيا، لكنه توسع نحو الشمال حتى لا ينشأ سوء فهم بأن الأطلسي غير موجود، ما يشجع القوى الأخرى على استغلال القطب الشمالي عسكرياً".

ضخامة المشاركة ورقعة الانتشار في جبال تروندهايم في المناورات الأخيرة، ونشر دائم لقوات أميركية وغيرها، ومستودعات عسكرية كبيرة، تُعتبر تحولاً استراتيجياً يقلق موسكو هذه الأيام. ووفقاً لوزير الدفاع النرويجي، فرانك ينسن، فإن "القواعد العسكرية النرويجية توجَد فيها بشكل دائم قوات غربية، وهي تجري تدريبات على معارك في المنطقة القطبية". وإلى جانب الانتشار الأميركي في المنطقة القطبية، يبدو أن بريطانيا، إلى جانب هولندا، بدأت جدياً تهتم بالمنطقة القطبية. وهو ما أكده تقرير للجنة الشؤون الدفاعية البرلمانية في لندن، منشور في أغسطس/آب الماضي بعنوان "على الجليد الرقيق: الدفاع البريطاني في القطب الشمالي". فمعدّو التقرير أكدوا أنه "يتعين على بريطانيا إبداء الحرص والاهتمام بتوسيع انتشارها من مناطق دافئة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط إلى العمل في مناطق أبرد، ومن الضروري العمل في المنطقة القطبية الشمالية ومحيطها من خلال الدفع بقدراتها هناك".

وعلى الرغم من أن المناورات لم تقل صراحة إن روسيا هي العدو المستهدف، إلا أن التركيز على مناطق القطب الشمالي بمشاركة عسكرية ضخمة؛ تجاوزت 10 آلاف مركبة وقطعة بحرية وأكثر من 250 طائرة حربية من مختلف الصنوف، وبانتشار 50 ألف جندي، إلا أنها حملت رسالة لروسيا مفادها: "قادرون على الدفاع عن أي هجوم في المضائق الباردة". وعليه، أعلنت روسيا أنها "ستقوم باختبارات على صواريخها الحديثة"، رداً على المناورات.

ورأى مراقبون ومختصون في توسع انتشار الأطلسي شمالاً كتجسيد لتوتر متزايد بين روسيا والغرب، تحديداً إظهار موسكو طموحات في العودة إلى فترة الاتحاد السوفييتي ومواجهة توسع الغرب نحو حدودها. وعليه، يبدو العامل الروسي في منطقة القطب الشمالي حاضراً وبقوة. ففي شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، اعتبر بوتين منطقة القطب ذات أهمية كبيرة لبلاده "لنواح استكشافية تتعلق بالتعدين واستغلال المحاجر". بل هو ذو أهمية كبيرة كممر مائي، إذ بدأت الدنمارك أخيراً، عبر شركتها الملاحية الأضخم، "ميرسك"، استخدامه من آسيا إلى أوروبا، بعيداً عن المياه الدافئة، وهو أمر لم يعجب الروس كثيراً.

النزاع حول "أحقية تملك" مناطق قطبية لم يعد خافياً؛ فالروس من جهتهم يرون أن من حقهم السيطرة على مناطق واسعة تتجاوز مليون كيلومتر مربّع، فيما الدنمارك تطالب بنفس "الأحقية" بمنطقة متداخلة تبلغ مساحتها ما يقارب 895 ألف كيلومتر مربّع من قاع البحار القطبية المطوقة للقطب الشمالي على طول الجبال الهائلة المغمورة، المسماة "لومونوسوفريغن". وتنظر حالياً لجنة الأمم المتحدة لحدود الجرف القاري في الموضوع، لناحية تداخل المنطقة مع الجرف القاري الروسي.

بدوره، رأى الخبير في الشأن الروسي في مركز الدراسات الدولية في كوبنهاغن، ميكل فيدبو، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتجه أكثر نحو عسكرة المنطقة القطبية". كما كان لافتاً قول المحلل الروسي، ألكسندر غولتس، لصحيفة "انفارماسيون" في كوبنهاغن إن "(الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين مشغول في عسكرة أبرد وأبعد منطقة في العالم". وذكر غولتس، الذي كان ضابطاً سابقاً في الجيش الروسي، أن "بوتين يؤمن بأن مستقبل ثروة روسيا مخفي في القطب الشمالي". واعتبر أن "التجاذب العسكري بين الطرفين يبيّن سعيا منهما للهيمنة، فجهود الأطلسي في المحيط الأطلسي والمنطقة القطبية الشمالية تنشط اليوم أكثر، وتتوسع حتى وصلت إلى حدود الفيدرالية الروسية، وهو بالتأكيد سيستدعي رداً روسيا". ورأى أن "التحرك الروسي يستند إلى العقيدة البحرية الجديدة، لتحقيق الطموح الكبير في الوصول إلى الموارد الطبيعية في المنطقة القطبية بأدوات عسكرية ضخمة تصطدم بالطموح الغربي، ما يجعل هذه العقيدة ترى في حلف الأطلسي التهديد الأكبر لروسيا".

الرئيس الروسي أيضاً أطلق بنفسه مبكراً، في يوليو/تموز 2015، من قاعدة بالتييسك (البلطيق) البحرية في كاليننغراد، أسطولاً بحرياً ضخماً، شمل كاسحة جليد نووية، باتجاه القطب الشمالي لتعزيز الوجود العسكري. وكان نائب رئيس الوزراء الروسي، ديمتري روغوزين، في المناسبة نفسها، والمكلف بمنطقة القطب، تحدّث عن عقيدة بحرية روسية جديدة، مؤكداً أن "أسطول الشمال (الروسي) سيمضي في فتح الطريق أمام البواخر والسفن التجارية والعسكرية الروسية للوصول غير المقيد نحو المحيطين الأطلسي والهادئ، ولتأمين وصول البلاد إلى موارد الطاقة في المنطقة القطبية الشمالية". وفي المقابل، تنقل صحيفة "بيرلنغسكا" الدنماركية عن أحد الجنرالات الأميركيين في مشاة البحرية الأميركية، قوله: "من دون تردد، فإن مناورات النرويج قالت بوضوح إن العدو هنا روسيا وليس أحداً غيرها".

ورغم اللغة المخففة للأطلسي، للحد من التوتر الذي يخلقه ضجيج الآلة العسكرية، إلا أن الروس يملكون الكثير من أسباب القلق، خصوصاً مع زيادة الوجود العسكري الدائم، الأميركي والغربي، في الشمال النرويجي، ضمن استراتيجية الحلف بعناوين الردع، إن في البلطيق وشرق أوروبا، أو المناطق القطبية الشمالية اليوم. فإلى جانب زيادة أعداد القوات الأميركية في تروندهايم، ستشهد بعض مناطق أقصى الشمال، تحديداً ترومسو وستيرمون، إقامة قاعدة دائمة للبحرية البريطانية والأميركية.

ولم يخف وزير الدفاع البريطاني، غافين وليامسون، في 30 سبتمبر/أيلول الماضي هذا الانتشار المتزايد، حين ذكر أنه "سيجري تمركز 800 جندي بريطاني بشكل دائم في النرويج كجزء من الاستراتيجية القطبية الجديدة".

أخيراً، يبدو أن المنطقة القطبية، التي كان ينظر إليها كمنطقة نزاع منخفض، تشهد اليوم زيادة في الاندفاع العسكري لتعزيز مناطق النفوذ. الروس من ناحيتهم رأوا في المناورات الغربية المحيطة بالقطب "هجوماً"، بحسب ما وصفته المتحدثة باسم الخارجية ماريا زاخاروفا. ورغم أن الحرب الباردة الجديدة في أبرد منطقة في العالم تقتصر هذه الأيام على سخونة في الكلام المتبادل بين المعسكرين، إلا أن الحشد والبناء العسكري يمضيان بتسارع، ما يعيد دول الشمال إلى سنوات اشتداد الحرب الباردة، وهذه المرة بتوسع حدودها إلى مزيد من الشمال.

المساحة والخريطة 
وتبلغ مساحة المنطقة القطبية الشمالية نحو 25 مليون كيلومتر مربّع. ثلثا المساحة عبارة عن مياه، وبالأساس، يتشكلان من البحار القطبية والمحيط المتجمد الشمالي، لكن المنطقة القطبية تضم أيضا 8 ملايين كيلومتر مربّع من اليابسة التي تتشارك فيها روسيا وكندا وألاسكا (الولايات المتحدة) وأيسلندا وجزيرة غرينلاند (الدنمارك). في فصل الشتاء، إن نحو 14 مليون كيلومتر مربّع من مياه القطب الشمالي تتحول إلى جليد، وتنحسر في الصيف إلى 6 ملايين، وهي مساحة تتجاوز 340 مرة ضعف مساحة الدنمارك.

تدفقات الجليد تتبع التيارات القوية بسماكة كبيرة تتجاوز 3 أمتار، وتأخذ رحلة الجليد هذه حوالي 6 سنوات من حوض إلى آخر في القطب. ومنذ بدء قياس كميات الجليد في القطب الشمالي في 1979، يبلغ متوسط الانحسار 3 في المائة كل 10 سنوات. وسجلت السنوات الأخيرة ارتفاع درجات الحرارة وذوبان صفائح جليدية ضخمة، وتستخدم في بعض مضائقه كاسحات جليد للمرور في المنطقة، مع تسجيل الخبراء لزيادة ارتفاع مستوى البحار بين 10 و90 سنتيمتراً، فباتت مواسم انحسار الجليد تمتد لأوقات أطول من السابق، مع ملاحظة زيادة الانهيارات الجليدية في غرينلاند.

المساهمون