عرسال اللبنانيّة تتحدّى الجغرافيا والسياسة

عرسال اللبنانيّة تتحدّى الجغرافيا والسياسة

02 ابريل 2014
من اعتصام تضامناً مع الجيش بعرسال الاثنين (العربي الجديد)
+ الخط -

هنا عرسال. بلدة ممتدة، تعرفها من جبالها التي أكلتها مقالع الصخر. أهلها يشبهون هذه الصخور. أشدّاء مثلها. هم الذين يعملون إمّا في مقالع الصخر، أو في التهريب. "نحن الـ 452 كيلومتراً مربعاً، من دوننا لا قيمة للبنان" يقول بكر الحجيري، مسؤول تيّار المستقبل في البلدة، لـ"العربي الجديد"، في إشارة منه إلى مساحة لبنان البالغة 10452 كيلومتراً مربعاً، رغم أن المساحة الفعليّة لعرسال تقارب 350 كيلومتراً مربعاً.

تبعد عرسال عن بيروت نحو 130 كيلومتراً. هذا رقم كبير بحسابات الجغرافيا اللبنانيّة الصغيرة. لكنها في السياسة أبعد من ذلك بكثير. تكاد تكون هذه البلدة محاصرة، أو معزولة. قبل مغادرتها، "نرسل سيارة استطلاع لنعرف ما إذا كان هناك حواجز لحزب الله" يقول أحد المسؤولين الحزبيين في البلدة. يستفسر أي زائر للبلدة هاتفياً، من المسؤولين فيها، عن أحوال الطريق قبل زيارتها. في مرّات عدة، طلب نائب رئيس البلدية، أحمد فليطي، من الصحافيين عدم زيارة البلدة بسبب وضع الطريق، خصوصاً عندما تكاثرت الحواجز، وأرغم كُثر من أبناء البلدة على النزول من سياراتهم، والخضوع لتفتيش يدوي، وأحياناً الركوع، من قبل عناصر أمنيّة غير رسميّة. وفي أحيان كثيرة، قُطعت الطريق لساعات على أهل عرسال.

عند المرور بحاجز استخبارات الجيش اللبناني، كان عناصره يُفتشون سيارة تابعة للصليب الأحمر اللبناني. في حالات عدّة، تم توقيف جرحى سوريين، واقتيادهم من سيارات الاسعاف، وأحياناً من قبل حواجز غير رسميّة.

ومع تنفيذ الخطة الأمنيّة في 19 مارس/آذار، انتشر فوج المجوقل (أحد أفواج النخبة في الجيش اللبناني) داخل عرسال وفي أطرافها، يسانده نحو 90 ضابطاً وعنصراً من فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي. يُقيم هؤلاء حواجز متنقلة داخل البلدة في الجرود، "وهذا ما خلق ارتياحاً لدى العراسلة، لكن لا تزال حواجز حزب الله منتشرة وتفتش المارة، وإن بلياقة أكثر من قبل" يقول نائب رئيس بلدية عرسال أحمد فليطي لـ"العربي الجديد".

تستقبل عرسال زائرها بألوانها القريبة من لون الحجر، واكتظاظ سكاني، ناتج من كثافة عدد اللاجئين السوريين. تختلط اللهجات هنا. تسمع مزيجاً بين لهجة العراسلة، ولهجة أهل حمص والقلمون. كذلك تتداخل الحالة الاجتماعيّة بين الفقر المدقع والطبقة المتوسطة. السمة الأبرز في شوارع عرسال، هي البنى التحتيّة المترهّلة جداً، وعدد السيارات التي لا تحمل لوحات رسمية، إذ تدخل السيارات من الأراضي السوريّة من دون جمارك ورسوم.

تسعى عرسال إلى تحسين علاقتها بالبلدات المجاورة، وهي بلدات مؤيدة لحزب الله، "لكننا لا نجد تجاوباً من الجهة الأخرى" يقول الحجيري. ويرفض تحميل البلدة مسؤوليّة خطأ أحد من أبنائها، "في حال كان متورطاً، ونحن نرفع الغطاء عن أي متورط". يتحدث الرجل بدبلوماسيّة كبيرة، خصوصاً أنه يُمثّل التيار السياسي الأبرز في البلدة.

لا يلتزم الآخرون بهذه الدبلوماسية. يطلب أحد فعاليات البلدة عدم ذكر اسمه قبل الخوض بنقاط عدة: يقول إنه التقى مراراً بمسؤولين من حزب الله في الهرمل. ويشير إلى أن حزب الله سمّى معركة يبرود معركة "يبرود ــ عرسال"، "وأهل عرسال متفقون على أمر واحد: لن نسمح لأحد باستباحة بلدتنا. موقفنا من الثورة السورية سياسي وأخلاقي، ولا يحق لأحد أن يُحاسبنا عليه".

يرى الرجل الخمسيني أن عرسال تدفع ثمن الواقع السياسي في لبنان أيضاً، "فعند تأليف حكومة الرئيس تمام سلام التي جمعت حزب الله وتيار المستقبل، انخفض مستوى الضغط علينا من الجوار". لكنّه يلفت إلى أن حزب الله ووسائل الإعلام القريبة منه تشن حملة متواصلة ضد عرسال، "فمثلاً، عند قتل أحد السوريين على يد عصابة، وهو أمر يحصل في أي مكان، قيل إن جبهة النصرة تسيطر على عرسال، وإن المطلوب من أهلها محاربتهم". وفي هذه النقطة، يؤكّد الرجل أنه تلقى وآخرين، دعوات لمحاربة جبهة النصرة، "وقيل لنا إذا كنتم تريدون السلاح فنحن جاهزون. المشكلة هي أنه لا وجود للنصرة في عرسال".




وداعاً "أبو طاقيّة"

ومنذ نحو سنة ونصف السنة، نشط شيخ سلفي يُلقب بـ"أبو طاقية" في البلدة، وبدأ بتسيير دوريات مسلّحة خصوصاً خلال الليل، "لكننا رفضنا هذه الحالة لأنها لا تُشبهنا"، تقول إحدى النساء، التي ترفض ذكر اسمها. يتفق الجميع في عرسال على "رفض التطرف" الديني. كيف لا، وهي المعروفة بتاريخها اليساري الطويل، والتي استشهد منها العشرات من صفوف الحزب الشيوعي اللبناني ضد الاحتلال الإسرائيلي. بجميع الأحوال، لا يزال زائر المدينة يمكنه ملاحظة أنّ الملابس "غير المتزمّتة" التي ترتديها النساء، وانتشار الكحول والاختلاط بين الجنسين في البلدة، تبقى "مظاهر" طبيعية، حتى إن انتشار المسلحين في محيط جامع الشيخ "أبو طاقية" اختفى. وكثيرون يؤكّدون أنهم منعوا أبناءهم من العمل مع هذا الشيخ.

اللافت هو حديث الكثيرين في عرسال عن "سرايا المقاومة". وهذه السرايا هي جهاز أسسه حزب الله ليضم مقاتلين غير منتسبين للحزب، خصوصاً من هم ليسوا من الطائفة الشيعيّة. ومند حرب يوليو/تموز 2006، اتّسع عمل هذه "السرايا"، وازداد عددها، وقد شاركت في أحداث السابع من مايو/أيّار 2008. يقول بعض أبناء عرسال إن هناك عدداً من شباب عرسال من المنتسبين لهذه السرايا، ويتخوّف هؤلاء من أعمال أمنيّة يقوم بها من هم في "السرايا".

 

النازحون: أزمة إنسانيّة

لا يشتكي أهل عرسال كثيراً من النازحين السوريين. يعدّون الأمر واجباً أخلاقياً، "هؤلاء أهلنا" تقول زاهرية، هي صبية عادت من بيروت إلى بلدتها عرسال منذ أشهر، وتعمل حالياً في مجال الإغاثة وفي أحد الأحزاب. تلفت زاهريّة، مع آخرين من البلدة، إلى أن الاعتراض الأساسي هو على رفض هيئات الإغاثة الدوليّة مساعدة نحو ثلاثمئة عائلة عرسالية تعيش دون خط الفقر. نزحت هذه العائلات من حمص والقصير وعدد من قرى القلمون، حيث كانت تعيش سابقاً، وعادت إلى بلدتها. في رأي المنظمات الدوليّة، إن هذه العائلات لبنانيّة وليست سوريّة، وبالتالي هي لا تخضع لبرامج إغاثة النازحين، بل هناك برنامج خاص بهذه الأسر، لكن لا يبدو أنه فعال، أو هكذا يُفهم من العاملين في المجال الإغاثي من أبناء عرسال.

هذا الأمر لم يمنع العراسلة من افتتاح أربعة مخيمات جديدة ليُصبح عدد المخيمات غير الرسمية ثلاثين مخيماً بحسب مفوضيّة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والإعداد جار لمخيمات أخرى، تحت إشراف وتمويل منظمات إغاثيّة. "الطعام ليس المشكلة" يقول الدكتور محمد محيي الدين، وهو طبيب أطفال يعمل في الإغاثة في عرسال. يُحدّد محيي الدين المشكلة من زاوية أخرى: "لقد عاينت أخيراً حالتي جرَب في صفوف الأطفال، والأمر قابل للزيادة صيفاً. أنا أتخوف من انتشار أوبئة مثل الملاريا والجرب والإسهال نتيجة الحرارة العاليّة صيفاً، وقلة النظافة وعدم توفر المياه".

يُشير محيي الدين إلى أن عدد النازحين وصل إلى نحو مئة وعشرين ألف نازح في البلدة، وهو رقم تؤكّده مفوضيّة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لـ"العربي الجديد" بشكلٍ غير رسمي.

يشرح محيي الدين الأمر على الشكل التالي: "لنفترض أن العدد هو مئة ألف لاجئ، كل لاجئ بحاجة إلى شرب ليترين من المياه يومياً، ما يعني أننا بحاجة إلى مئتي ألف ليتر يومياً، وعشرة ليترات للنظافة، ما يعني الحاجة إلى مليون ليتر مياه. هكذا صرنا نحتاج إلى نهر في عرسال. كما نحتاج إلى خمسين ألف ليتر حليب يومياً".

ويُضيف محيي الدين أن عرسال غير مجهزة بشبكة صرف صحي، بل تعتمد على الحفر الصحية. وبرأيه يُرتّب هذا تحدياً بارزاً على المستوى الاجتماعي.

تعيش عرسال حالة خوف وترقّب؛ خوف من استهدافها من قبل قوى حزبيّة لبنانيّة، وترقّب لازدياد عدد النازحين السوريين، مع ما يحمله هذا الأمر من تداعيات إضافية على البلدة، وخصوصاً أن عدد النازحين بات يشكل نحو ثلاثة أضعاف عدد سكّان البلدة.

المساهمون