عبث مُشين بالهندسة الاجتماعية.. العراقيون المسيحيون مثلاً

26 يوليو 2014

مسيحيون لاجئون من الموصل يصلون في أربيل (20يوليو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -


بينما تقف الأكثرية الكاثرة والساحقة من المسلمين ضد فظائع تنظيم داعش في الموصل، وأجزاء من شمال العراق، والتي تستهدف العراقيين المسيحيين، فإن ولاة التنظيم المذكور يتشدقون بأنهم يمثلون المسلمين والإسلام. ودولة الخلافة الافتراضية لم تجد من "يبايعها" حتى لدى حركات أصولية. ولئن بدت ارتكابات زعماء هذا التنظيم كاريكاتيرية، تثير من الذهول بقدر ما تحمل على السخرية، فإن واقع الحال يفيد بأن إجراءات كارثية وكابوسية قد طبقت بحق نسبة كبيرة من مواطني العراق، بجريرة أنهم يعتنقون ثاني ديانة توحيدية، وليس لأي ذنب آخر اقترفوه، أو ارتكبه بعضهم. يحدث ذلك في بلد حمورابي والأمين والمأمون، وليس في أدغال متوحشين.

منذ الاجتياح الأميركي للعراق في العام 2003 وما تلاه من اضطرابات وتخلخلات واستقطابات، نأى المسيحيون في هذا البلد بأنفسهم، عن معترك الفوضى الأمنية والسياسية. وبرهنوا أنهم زاهدون في الأسلاب والغنائم التي أحرزتها قوى اجتماعية وسياسية، نتيجة المحاصصات وازدهار الميليشيات، بل تعففوا حتى عن حقوق مشروعة، مثل المناصب والمواقع الحكومية، وقد جرى التعامل معهم وفق تقسيمات مجلس الحكم الأول، باعتبارهم أقليات وإثنيات، فيما هم يمثلون العراقيين الأوائل الذين استوطنوا بلاد ما بين النهرين.

من جملة 325 عضواً في مجلس النواب العراقي، فإن مقاعد المسيحيين لا تتجاوز خمسة. ولئن قيل إن هذا العدد يماثل نسبة العراقيين المسيحيين (علما بأنه ليس هناك تعداد سكاني يعتد به!)، فإن هذه الديمقراطية العددية تتجاهل وزن المسيحيين التمثيلي، باعتبارهم يمثلون ثاني ديانة في البلد، ويتوزعون على مناطق شاسعة في الشمال والوسط. إنها ديمقراطية عددية بائسة، لا صلة لها بديمقراطية تمثيلية حقاً لمكونات المجتمع.

منذ ما قبل غزوة داعش الأخيرة، بعقد على الأقل، تعرضت كنائس وأديرة ورجال دين مسيحيون لحملاتٍ تعسفيةٍ منهجيةٍ، ظلت تسجل ضد مجهولين، ولم يحدث أن عوقب جناةٌ بجُرم ممارسة التمييز الديني والطائفي. هذه الأيام، يزعم نوري المالكي أنه سيحمي المسيحيين والأقليات. أين كان طوال فترة سابقة، ولماذا لم يقف في وجه التمييز الديني والطائفي والعرقي؟ في واقع الأمر إن استضعاف المسيحيين في العملية السياسية، وتهميشهم المنهجي، شأنهم في ذلك شأن التركمان والصابئة والأزيدية، قد أنتج واقعاً، أو أمراً واقعاً يقوم على التمييز، وعلى طعن مبدأ المواطنة والقفز عنه، ما سهّل لداعش وأمثالها القيام بعملية استئصال مُشينة وبدائية ضد أبناء البلد الأصليين، بتهجيرهم من بيوتهم، والاستيلاء اللصوصي على ممتلكاتهم، ودعوتهم إلى التخلي عن معتقدهم الديني أو يؤدون الجزية.. ذهباً! وهو ما حمل أكثر من ألف عائلة على هجر بيوتها، والتخلي عن كل ما يملكون، كي يصبحوا لاجئين مشردين في وطنهم، ابتغاء السلامة، تطاردهم أشباح أصوليين، يزعمون أنهم يمثلون صحيح الدين، فيما عاش المسيحيون مع غيرهم، ومن المسلمين خصوصاً، في تعايش مديد عبر قرون.

في الفترة ذاتها التي حكم فيها الائتلاف "الشيعي"، غادرت أعداد كبيرة من العراقيين المسيحيين إلى المنافي، وأدى الاقتصار على منح مزايا تفضيلية لهجرة هؤلاء من أوساط غربية، بعضها دينية، إلى حل مشكلات فردية وعائلية، لكن هذه السياسة أدت إلى تفريغ البلد من نسبة كبيرة من مسيحييه، وهو ما حدث شبيهُ له في سورية ومصر وفي فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي. كما عززت من نزعة الانكفاء لدى جموع المسيحيين، ما سهل مهمة الاحتلال والأصوليين، وأدى بالتراكم إلى أحادية ثقافية، وإفقار النسيج الاجتماعي، وتقلص التعدد الديني الذي كان يسم هذه المنطقة ومجتمعاتها.

تحفل مصادر الشبكة العنكبوتية بمعلوماتٍ غنية عن أقدم الكنائس في العالم التي أقيمت في العراق وسورية. وعن التعايش الذي وقع بعد الفتوحات العربية والإسلامية، وحتى تحول قطاعات من المسيحيين إلى الإسلام، من دون أن يتسبب ذلك بتشققاتٍ اجتماعية تذكر.

الآن، يريد تنظيمٌ، مثل داعش، طرح هذه الوقائع الغائرة الجذور في التاريخ جانباً، والشروع في بداية صفرية تجعل من العراقيين المسيحيين غرباء ومطاردين في ديارهم، على أيدي عناصر وافدة من خارج المنطقة، وأخرى من داخلها، لا ترى شيئاً من الواقع وحركته، ومن تكتل الجماعات والأفراد، سوى تصنيف البشر إلى مسلمين وغير مسلمين، وتغليب المسلمين على غيرهم، دينياً وسلطوياً، وليس أي شيء آخر.

هذه النقلة "النوعية" في استهداف المسيحيين، وتشديد النكير عليهم، إذا لم يتم التصدّي لها بما تستحق، فإن كل ما تم إنجازه على صعيد بناء الدول ووضع الدساتير وسن القوانين وإبرام العقود الاجتماعية، على تواضع ما تم، سوف يغدو في مهب الريح، وعُرضة للتقويض والتبدد، مع ما يثيره ذلك من تداعياتٍ سلبيةٍ وتفاعلات مدمرة، تطال شبكة العلاقات الاجتماعية، ومفهوم الدولة والولاية وحكم القانون.

وفي القناعة أن مكافحة هذه الآفة الخطيرة لا تتم بمنظور سياسي ضيق، يقوم على تحالفات آنية وانتقائية، لخدمة أغراض سياسية لأصحابها، كما هو سلوك حكومة المالكي ذات المنحى الطائفي، والتي تناصر المسيحيين لفظياً وإعلامياً، من أجل استخدام هذه المناصرة، وتوظيفها في التغليب الطائفي ضد مكون طائفي آخر، وإنما من منظور وطني ومدني، يُعلي من شأن المواطنة، ويُجرّم الأحزاب والتكتلات السياسية التي تقوم على أساسٍ ديني، أو طائفي أو عرقي، ويحظر الميليشيات والمجموعات المسلحة التي تقوم على مثل هذه الأسس، وعلى غيرها من المرتكزات!

ذلك هو السبيل لمكافحة داعش وسائر الدواعش، ما ظهر منها وما استتر. وإلا فإن الوطن سيبقى حُكماً فيدرالية طوائف ومناطق وأعراق، محكومة بتوازنٍ فاسدٍ، يتيح لمن يتوسّم في نفسه القوة والغلبة التمدد والإقصاء والاحتكار، وهو الواقع الذي ما فتىء العراق يعيش تحت كلكله، وإن تحت مسمياتٍ وطنيةٍ ودستوريةٍ فخيمةٍ، تجافي الواقع مجافاة الليل للنهار.