صندوق الثورة الأسود

15 مارس 2016
+ الخط -
تجد المعارضة السورية نفسها سجينة صندوق مغلق، أرضيته عسكرية وسقفه سياسي، تمنعها أوضاعها الراهنة من فعل أي شيء جدّي حياله، لا سيما وأنها ليست هي التي صنعته، وأنها تجد نفسها مجبرةً على الرضوخ له والانصياع لمتطلباته، وعمل حساباتها في ضوء ما يقرّره صنّاعه الذين لا ينتمون إليها، ولا يوافقون على خياراتها وأهدافها، لكنهم يسمحون لها بحرية التحرك بين أرضية الصندوق وسقفه، المغلقين بإحكام، كي لا تبذل الفصائل المعارضة أي جهد، ولا تضع أية خطط لإخراج الثورة منه، ولا تنسى أنه محروس بقوى عربية وإقليمية ودولية تتحكم به، لا قبل لأحد داخله أو خارجه بمواجهتها، وليس من حقه الاعتراض على ما تبديه من آراء، وتتخذه من مواقف، وتدافع عنه من مصالح. ومن دواعي انضباطه بالصندوق خوفه من غضب صنّاعه الذين صاروا أولياء نعمة، وأمر المعارضة التي ترتبط دورة حياتها بهؤلاء: بما يقدمونه لها من أسباب الحياة والاستمرار من حينٍ إلى آخر، ويمنّون به عليها من أعطياتٍ تعزّز دور من يمسكون بمن هم داخله من أهل الثورة وقواها.
لم يكن "لممثلي" الثورة السورية (الأصح القول للممثلين على الثورة السورية) أي دور في تحديد سقف الصندوق السياسي، أو تقرير هوية ودور العسكر الذين يحتلون أرضيته. أما حركتهم داخل الصندوق فكانت، بطبيعة الحال، عشوائية وكيفية ومحدودة، ومرسومة بصورة مسبقة إلى أبعد حدّ يمكن تصوره، وافتقرت افتقاراً مخزياً إلى ما يلبي حاجة الثورة السورية برامج وخطط تساعدها على بلوغ الحرية، وبلورة خيارات ذاتية، وقرارات مستقلة نسبياً. وليس سراً أن هؤلاء ظلوا دوماً محكومين بمساحة الصندوق الداخلية الضيقة، والتي تضيق وتتسع بقرارٍ من صانعيه والقائمين على حراسته. ربما كان هذا يفسر تلاشي دور ممثلي المعارضة المتزايد، ويكاد يكون غائبا تماماً، في معظم القضايا التي تطرح نفسها عليها في محبسها داخل الصندوق الذي كلما تحرّكت المعارضة إلى الأعلى، ارتطم رأسها بسقفه الشديد الانخفاض، وإلى الأسفل اصطدمت قواها العسكرية بأرضيته القاسية. ويزداد الأمر سوءاً إن فكّرت بالخروج عسكرياً منه إلى ميادين القتال، أو سياسياً إلى مراكز تجمع وإيواء ملايين السوريين المشردين في أربع جهات الأرض: مادة الثورة البشرية التي لا تملك القدرة على إقامة علاقة مباشرة معهم، لأن تواصلها الحر معهم، أو تواصلهم غير المقيد معها يعني خروجها من الصندوق، وهو محظور وتحول دونه عقباتٌ متنوعةٌ، في مقدمها ضيق ذات يد الثورة، وافتقارها ما يمكّنها من إقامة علاقاتٍ منظمةٍ مع شعبها الذي صار بالنسبة لها افتراضياً.

يضيق الصندوق عندما يتصاعد النضال الثوري السوري، ويكبر دور حامله المدني والشعبي في الصراع من أجل الحرية. عندئذٍ، يستخدمه صنّاعه للضغط على من يعيش وينشط من السوريات والسوريين خارجه، ويُستعان بالدور التعطيلي لمؤسسات المعارضة التمثيلية التي تنسق أفعالها وأقوالها مع الجهات التي أقامته، وتقصر الجزء الأكبر من جهدها على تقييد حراك الطاقات الشعبية والقدرات المجتمعية المدنية والحرّة.
السؤال الذي يطرح الآن: هل تتوفر لمن نصّبوا ممثلين لثورةٍ لم يكن لمعظمهم أية علاقة نضالية بالظروف التي أنجبتها، أو أي دور في انفجارها، القدرة على والرغبة في الخروج من الصندوق الأسود الذي يحتجز إرادة شعب سورية، وقدرات قواه الثورية، واقتصر دورهم إلى اليوم على المشاركة من موقع التبعية في إدارة مآزق وطنهم، وإبقاء قضيته حبيسة حسابات الذين بنوا جدران صندوقٍ محكمة الإغلاق، تستحيل مبارحته، بغير خوض معركة وطنية الخيارات ضده، ينخرط فيها ثوريون مؤمنون بحق شعبهم في الحرية والقرار الوطني المستقل، يرفضون الانصياع لأية جهةٍ، ترى في ثورتهم مسألة برانية من مسائل سياساتها الخارجية، أو علاقاتها وصراعاتها الإقليمية والدولية. بما أن من صنعوا القفص جلبوا معظم ممثلي المعارضة الحاليين من عالمٍ، لا يمت إلى الثورة بصلة، ووضعوهم في مواقع لعبوا عبرها دوراً يُصادر إرادة الشعب، ويمنع سجناء الصندوق من تغيير وضعهم، عبر تواصلٍ منظمٍ وثوريٍّ مع القوى المدنية والثورية خارجه، أو/ وتمكين من هم خارجه من مساعدة سجنائه على كسر أو اختراق سقفه السياسي فوق، وأرضيته العسكرية تحت.
والنتيجة: لا فائدة من أي جهد إصلاحي، أو تغييري، يلتزم بقواعد الصندوق، والتي تبقي من هم داخله عاجزين، وخارجه ضائعين ومشتتين، وتسمح بأن يتلاعب بالثورة كل من هب ودب في المنطقة وخارجها، وباستمرار تدفق نهر الدماء من أوردة وشرايين المطالبين بحريتهم من السوريات والسوريين الذين يفتقرون إلى قيادةٍ تقربهم من أهدافهم. ولا بد من تركيز الجهود على تغيير قواعد اللعبة القائمة مند نيف وأربعة أعوام ونصف العام، والسعي إلى تكسير السقف السياسي فوق، واختراق الأرضية العسكرية تحت، بقوةٍ كتلك، تاريخية جديدة، تحشد طاقات الشعب، وفق استراتيجية سياسية، تترجم إلى برامج وخطط ينضجها الحوار والتواصل بين جميع المكونات السياسية والعسكرية والمدنية السورية التي ستخرج عندئذ من الصندوق، وستستعيد حرية التفكير والقرار، وسترفض أية أوضاعٍ وخياراتٍ، لا تلبي مصالحها وتحقق مطالبها.
ثورتنا الرائعة، والتي لا مثيل لها، أسيرة، ولن تنتصر إذا لم نحرّرها من أسرٍ مضت عليه قرابة خمسة أعوام، تنوعت خلالها مآسي شعبنا وطال عذابه.

E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.