شيخ وعصا..

شيخ وعصا..

07 مارس 2017
+ الخط -
شيخ طاعن في السن، بالكاد يستطيع المشي، يحمل عصا يتوّكأ عليها من حين إلى آخر، لإعانته على طول الطريق، يصطف جنب مئات من الناس، هم يرفعون أصواتهم، مردّدين شعارات، قد لا يفهم جلّها، ومع ذلك يمشي وسطهم، وعيونه تحكي الكثير.
منظر شهدته في المسيرة الألفية لساكنة مدينة زايو/ إقليم الناظور في المغرب، يوم 25 فبراير/ شباط الماضي، للمطالبة بتسريع وتيرة أشغال بناء مستشفى محلي، الشيخ الذي لم تلتفت إليه عدسات الكامرات، ظلّت صورته ترافق مخيلتي، دلالاتها تتجاوز ذلك الثمانيني ذاته، كما تتجاوز المدينة الصغيرة في شرق الريف المغربي، هي أكبر من ذلك بكثير، لأنها تحكي معاناة شعب.
لا يبدو على الشيخ الغنى، ولا العمل الكريم، فمن مظهره وهو يرتدي معطفاً أسود كبيراً، يملأه الغبار، يتضح أنّه عامل بسيط أو فلاح فقير، وقد يكون بدون عمل، وربما "يبيع السمك"، مثل الشهيد محسن فكري الذي راح ضحية بطش السلطات، وكان نقطة أفاضت كأس الصبر، وحركت شوارع الريف على امتداد شهور، وما تزال.
لا يشتري ابن الشعب الطاعن في السن الأراضي في الرباط، بدراهم معدودات، كما أنّ هيئته ليست كهيئة "خدام الدولة"، كان يضع قبعة صوفية رمادية، لم يقصد أن يرتديها بهذا اللون، لكن الأخير يحمل الأمل، أمل لدى الشيخ جعله يخرج، بعد أن قضى سنواتٍ، وهو يتجه نحو صناديق الاقتراع، على ما أظن! قرّر أن يستجيب لنداء الخروج، آملاً أن يأتي بما لم تستطع الانتخابات الإتيان به.
حين كنت أمشي فترة جنبه، وأتأمل، كان مما افترضته أنّ الشيخ فقد أحد أبنائه أو أقربائه، بسبب بعد المستشفى، فخرج مع الجماهير، ليصرخ "بصمت"، ويجري "ببطء"، لإيصال رسالته، وقد تكون زوجته أنجبت أبناءه في المنزل، وأجزم بذلك. لأن جلّ عائلات المنطقة قبل عقود خلت كانت منازلها "دارا للولادة"، وربما توفي أحد أبنائه بعد ولادته.
وقد يكون الشيخ خرج ظناً منه أنّ الساكنة تطالب بمستشفى السرطان الذي يفتقده إقليم الناظور والريف عموماً، من يدري، وربما لم يكن يعلم حتى ما يقع، مع أني لا أعتقد ذلك، فعزمه على المضي، على الرغم من صعوبة المشي يوحي أنه يعلم ما يجري.
عصاه، التي يتوّكأ عليها لم تكن مصنوعة من أجود أنواع الخشب، أو من أثمن المعادن، كانت من شجرة "الزيتون" أو"الزبوج"، يدوية الصنع، هي الأخرى لها دلالات عميقة، قد تكون مثل "الصبر"، الذي يكبح جماح الشعب، أملا في تحسن الأوضاع بندم الناهبين، أو "توبة" المسؤولين، وقد تأكلها دابة الأرض، وتفتح أبواب الاحتجاجات، ليس في الريف فقط.. ولا في الأطلس والجنوب الشرقي، بل في كل المدن والقرى.
جسّد الشيخ بحق معاناة الوطن والشعب، ونزيفه المستمر، لكنه، في الوقت نفسه، حمل رسائل متعددة، أولها: أنّ الشعب المغربي بشيبه قبل شبابه (وهم أهل الحكمة) قد ملّ من الوعود الكاذبة التي شهدها عقودا، ووقف على حقيقتها.
ثانيا: كشف الشيخ أنّ سكان المدن المهمشة يكفي أن يتلقوا دعوة للخروج للتظاهر، حتى يستجيبوا على الفور، لأن الأزمات قد "وصلت إلى العظم"، كما يقال.
ثالثا: إنّ كفاح الثمانيني، على الرغم من شيخوخته وصعوبة مشيه، يدل على أنّ الشعب لم ييأس بعد، وما يزال يحمل الأمل، في أن تتحسّن الأوضاع للأفضل.
رابعا: خروجه يؤكد أنّ الريف والمغرب عموماً، وصل إلى مرحلة جد حساسة، بحيث وصلت المشكلات والأزمات إلى أوجها، وبات بروز موجة أخرى من الاحتجاجات على شاكلة 20 فبراير، وارداً جدًا.
الأوصاف التي ذكرتها للشيخ، وإن كانت تنطبق عليه، كما تنطبق على من هم في سنه، وشاركوا في الاحتجاجات، فهي تمثّل معاناة مغاربة كثيرين.
B0CB5C84-828A-46C8-BC25-5C024AFBC08E
B0CB5C84-828A-46C8-BC25-5C024AFBC08E
شفيق عنوري (المغرب)
شفيق عنوري (المغرب)