سورية: النظام يستردّ "الوديعة الكردية"

سورية: النظام يستردّ "الوديعة الكردية"

29 يوليو 2018
استعراض عسكري لعناصر "قسد" (دليل سليمان/فرانس برس)
+ الخط -
بدا يوم أمس وكأنّ صفقة تسلُّم وتسليم جرت في سورية بين النظام ومسلحي القوميين الأكراد ممثلين بوفد "مجلس سورية الديمقراطية" (مسد) المتواجد منذ أيام في دمشق، والذي اتفق وفده مع النظام، فعلياً، على إعادة تسليم مناطق سيطرته، خصوصاً في الحسكة ودير الزور والرقة، إلى دمشق، بعدما حامت شبهات كبيرة حول طريقة تسليم قوات النظام تلك المناطق إلى المسلحين الأكراد في أول أيام الثورة وطيلة سنوات الحرب السبع، لتبدو الصورة وكأن ما حصل أمس هو أقرب إلى استعادة النظام "وديعة" سبق له أن أعطاها للجناح السوري من حزب العمال الكردستاني، من ضمن استراتيجيته لمناكفة تركيا ولمنع تقدم فصائل الثورة في حينها في المزيد من المناطق. 

وأعلن أمس السبت، عن اتفاق لتسليم مناطق الأكراد إلى النظام السوري، يتمحور حول صفقة بوشر العمل بها بين الأكراد والنظام. اتفاق يبدو أنه يحظى بموافقة أميركية، باعتبار أن "مسد" هو الجناح السياسي لـ"قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، المدعومة من الأميركيين. وفي التفاصيل، أعلن "مسد"، أمس، أنه اتفق مع النظام السوري على تسليم المناطق الخاضعة لسيطرته للنظام، كما تم الاتفاق على "رسم خارطة طريق تقود إلى سورية ديمقراطية لامركزية"، من دون ورود تأكيد من جانب دمشق. وذكر "مسد" أنه "قرر مع النظام تشكيل لجان على مختلف المستويات لتطوير الحوار والمفاوضات وصولاً إلى وضع نهاية للعنف والحرب، ورسم خارطة طريق تقود إلى سورية ديمقراطية لامركزية". وأضاف المجلس أنه "اجتمع بمسؤولين في الحكومة السورية الأسبوع الماضي، بدعوة من الحكومة بعد حوارات تمهيدية في مدينة الطبقة على نهر الفرات ركزت على استعادة الخدمات المحلية".

ويدل ذلك على تحرك النظام السوري على أكثر من صعيد في محاولة لحل العديد من الملفات "المقلقة" التي تحول دون استعادة سيطرته على كامل الجغرافيا السورية، في سياق عملية إعادة التأهيل برعاية روسية، مستفيداً من قلق أميركي متنام من الدور الإيراني في سورية. وتعامل النظام أخيراً مع أكثر من ملف عسكري وإنساني، ولكنه بدأ يواجه غضباً كبيراً من الشارع السوري بعد بدء الإفراج عن أسماء آلاف المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، في الوقت الذي حسم فيه ملف الجنوب السوري، وشرع في حسم ملف منطقة شرقي الفرات بالتفاوض مع الجانب الكردي.

وحسم النظام وحلفاؤه ملف الجنوب السوري لصالحه إثر حملة عسكرية انتهت بعقد اتفاقات مع فصائل الجيش السوري الحر، سمحت لقوات النظام باستعادة السيطرة على معظم مساحة محافظتي درعا والقنيطرة. وهو ما لم يكن يحلم به النظام لولا ضوء أخضر أميركي، يؤكد وجود تفاهمات روسية أميركية في أطلقت يد الروس في سورية. ويسابق النظام الزمن لحل مشكلة المعتقلين السوريين في سجونه، وهم بعشرات الآلاف، مفرجاً عن قوائم آلاف المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب. وسلّمت الأفرع الأمنية التابعة للنظام دائرة النفوس بريف دمشق، صباح يوم الجمعة، قائمة جديدة بأسماء المعتقلين من أبناء مدينة داريا، الذين قُتلوا تحت التعذيب في أقبية الأفرع الأمنية.

وقالت مصادر متطابقة من أهالي المعتقلين المتوفين من داريا، لـ"العربي الجديد"، إن "قائمة تضمّ أسماء ما يُقارب ألف مُعتقل من مدينة داريا بريف دمشق، وصلت من الأفرع الأمنية إلى دوائر النفوس بريف دمشق"، موضحةً أن "دوائر النفوس بدأت بتغيير حالة المعتقلين من حي إلى متوفٍ على أنظمتها الإلكترونية".

وكان النظام قد بدأ بتسليم دوائر النفوس في المحافظات السورية أسماء المعتقلين الذين قُتلوا تحت التعذيب، بعدما كان مصيرهم مجهولاً لسنوات، غير أنه لم يعترف بمقتلهم تحت التعذيب، بل ادعى أنهم توفوا نتيجة أمراض مختلفة دون تقديم أي أدلة طبية، بما في ذلك جثث المتوفين ليتم عرضها على الطب الشرعي وتأكيد سبب الوفاة. ووصلت الدفعة الأولى من أسماء المعتقلين المتوفين تحت التعذيب في محافظة الحسكة في إبريل/ نيسان الماضي، تبعتها دفعة أخرى في مدينة المعضمية بريف دمشق، ثم الزبداني وحماة ويبرود وغيرها من المناطق والمدن السورية.

ويعدّ ملف المعتقلين من أبرز الملفات التي تطرحها المعارضة في كل جلسات التفاوض غير المباشر مع النظام، سواء في أستانة أو جنيف، ولكن الأخير كان يتهرّب منه خشية مواجهة عواقب قانونية في محاكم دولية، خصوصاً أنه قتل عشرات آلاف المعتقلين تحت التعذيب في جرائم موثقة بالأدلة والبراهين، وهو يحاول الاحتيال من خلال ادعاء وفاة المعتقلين بنوبات قلبية. ولا يزال الشارع السوري بحالة صدمة نتيجة الإفراج التدريجي عن أسماء المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، في ظل صمت دولي، بل مسعى واضح لإعادة تعويم وإنتاج هذا النظام من خلال مساعدته على استعادة السيطرة على البلاد.

ولا يزال أمام النظام السوري الكثير من الملفات التي يحاول حلها قبل الوصول إلى مرحلة الحل النهائي للقضية السورية، لعل أبرزها ملف محافظة إدلب، شمال غربي سورية، التي لا تزال معقلاً بارزاً للمعارضة السورية، ولـ"هيئة تحرير الشام". ومن المتوقع أن تحضر على طاولة اجتماع أستانة في سوتشي، يومي الاثنين والثلاثاء المقبلين. ومن الواضح أن هناك تفاهمات تركية روسية على أن شمال سورية في غربي الفرات هو منطقة نفوذ تركي، على أن تقوم أنقرة بحل معضلة "هيئة تحرير الشام"، وهو ما يعمل عليه الأتراك في الآونة الأخيرة. ورغم التصريحات المتلاحقة من مسؤولي النظام السوري حول النية للتوجه إلى إدلب، إلا أن هذه التصريحات لا قيمة لها طالما أن هناك تفاهماً تركياً روسياً يحدد مصير المنطقة.

ويبقى الملف الكردي من الملفات الهامة لدى النظام، خصوصاً أن "قسد" التي تشكل الوحدات الكردية، الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، ثقلها الرئيسي، تسيطر على جل منطقة شرقي نهر الفرات، وهي المنطقة الأهم اقتصادياً في سورية. و"قسد" تسيطر بدعم أميركي مباشر على نحو ربع مساحة سورية، أي على معظم منطقة شرق الفرات التي تعدّ "سورية المفيدة" بثرواتها المائية والزراعية والنفطية، وتسيطر قواتها على معظم مساحة محافظة الرقة، وكامل ريف دير الزور، شمال نهر الفرات، ومعظم محافظة الحسكة باستثناء مربعين أمنيين للنظام في مدينتي القامشلي والحسكة. كذلك تسيطر "قسد" على ريف حلب الشمالي الشرقي، شرق نهر الفرات، وسلسلة قرى جنوب نهر الفرات تمتد من مدينة الطبقة غرباً وحتى مدينة الرقة شرقاً، على مسافة أكثر من 60 كيلومتراً.



وأدّت التطورات الكبيرة في منطقة عفرين، شمال غربي حلب، وفي مدينة منبج، شمال شرقي حلب، دوراً مهماً في تعديل استراتيجية "الاتحاد الديمقراطي"، الذي تُرك لمصيره أمام الجيش التركي وفصائل تابعة للمعارضة السورية، وهو ما دفعه إلى فتح باب حوار مع النظام، والتسريع في خطوات تفاهم معه، تجنباً لعملية عسكرية تركية في شرق نهر الفرات ربما تفضي إلى اختفاء الحزب نهائياً من المشهد العسكري والسياسي السوري. وكانت مجموعة من الأحزاب الكردية السورية قد أعلنت أواخر عام 2013 "الإدارة الذاتية" في مناطق داخل محافظة الحسكة، شمال شرقي سورية، التي تعد أبرز تجمّع للأكراد السوريين، لتتوسع لاحقاً وتشمل مناطق في الرقة وريف حلب. وحاول الأكراد إنشاء إقليم ذي صبغة كردية في شمال سورية، ولكنه جوبه برفض تركي مطلق تمثل بتدخل عسكري مباشر في عفرين، شمال غربي حلب.

من جانبه، قال مستشار الرئاسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي، سيهانوك ديبو، لـ"العربي الجديد"، إن "المفاوضات بين الإدارة الذاتية الديمقراطية، والحكومة السورية في دمشق خطوة سليمة ومهمة جداً، وهي الخطوة الأولى والبداية المقبولة التي نؤيدها بشكل كامل"، مضيفاً "لكنه من المبكر الحديث عن نتائجها". وتابع قائلاً "هذه المفاوضات إذا ما جرت في سياقها الطبيعي، فيجب أن تأخذ شكل اللجان التي تتمخض عن اللقاء، وأن تكون هناك لجان لبحث المقاربة الدستورية للإدارة الذاتية الديمقراطية".

وأوضح أنه "قد تكون هناك لجان في مجال التعليم وفي مجال الأمن الداخلي"، مضيفاً أنه "بشكل عام سيكون التركيز على صلاحيات الإدارة الذاتية الديمقراطية، وصلاحيات المركز وأيضاً الصلاحيات المشتركة ما بين المركز والإدارة الذاتية الديمقراطية بشمال سورية". وأشار إلى أن "المفاوضات جرت على مستوى سياسي"، مضيفاً أن "هذا بحد ذاته بداية اعتراف من السلطة في دمشق بالشكل السياسي للإدارة الذاتية الديمقراطية، خصوصاً إذا ما أدركنا أن المفاوضات جرت بناء على طلب من الحكومة السورية بشكل رسمي، وتمت تلبيته من قبل الإدارة الذاتية الديمقراطية التي أرسلت وفداً رسمياً إلى دمشق". ولفت ديبو إلى أنه "لا يمكن التكهن بالوقت الذي قد تأخذه هذه المفاوضات، ولا نستطيع أن نضع حدّاً أو وقتاً زمنياً لانتهاء هذه المفاوضات".

وبات من الواضح انخفاض سقف طموح الأكراد السوريين من الفيدرالية إلى الإدارة اللامركزية، خصوصاً أن الجانب الأميركي، الداعم الرئيسي لـ"قسد"، لم يذهب بعيداً في هذا الدعم لدرجة تحقيق الحلم الكردي، وانصبّ اهتمامه حالياً على تطويق الوجود الإيراني في سورية، وهو ما صب في صالح النظام وحلفائه الروس الساعين إلى استعادة شرق سورية. وبدأ القلق يجتاح محافظة الرقة السورية التي تسيطر عليها "قسد" جراء تقارب الأخيرة مع النظام، إذ تولّدت خشية من تسليم المنطقة لقوات النظام التي عادة ما تقوم بعمليات انتقام "متوحشة" في المناطق التي تستعيدها. ولكن مصدراً في هذه القوات أكد لـ"العربي الجديد"، أن "التفاوض مع النظام كي يعم السلام في كل سورية"، مضيفاً أن "هذه عملية تفاوضية تختلف بشكل كامل عن التي حدثت تحت اسم المصالحة في الغوطة ودرعا والقلمون وغيرها".

من جهته، رأى نائب رئيس رابطة الأكراد السوريين المستقلين، رديف مصطفى، أن "ما يجري بين قسد والنظام ليس مفاوضات وليس حواراً حتى"، مضيفاً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الأمر هو مجرد استدعاء من النظام لإعادة الوديعة وبالتالي الاتفاق على ما يسمى انتخابات المجالس المحلية وفقاً للقوانين الأسدية والتي تسميها زوراً مسد باللامركزية الديمقراطية. إنه مجرد استدعاء أمني لإعادة المعابر وسجلات النفوس والدوائر للنظام الذي رغم تعاونه مع الاتحاد الديمقراطي وتفريخاته لم يعترف بهم وبإدارتهم الذاتية وهو في ضعفه، فكيف سيعترف بهم وهو يشعر بالقوة الآن. إنها مسرحية جديدة لمصلحة نظام الطاغية أداتها مسد".

المساهمون