سنطردهم من إناء الزهور

31 مارس 2014
+ الخط -

 


أَنا الأرضُ
والأرضُ أَنت
خديجةُ! لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب،
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل. 

سنطردهم من هواء الجليل.

*
كان محمود درويش في مطلع الثلاثينيات من عمره عندما كتب "قصيدة الأرض"، والتي طلعت من "مناسبة" وعبَّرتْ عن "مناسبة"، ولكنها عَبَرَت "المناسبة" إلى الخزانة الذهبية للشعر العربي الحديث.. 

العمر، هنا، ليس مهماً بحد ذاته، لأن درويش كان قد أَرسل، باكراً، البشارة الأولى بولادة شاعر كبير من رحم مأساة بلاده، لكنه لم يترك للمأساة (التي استثمرها كثيرون في فجاجة) أَن تختصره، وتجعله شعاراً لها. ففي الوقت الذي كان يولد فيه من رحم تلك المأساة الوطنية والشخصية، كان تاريخه الشعري يبدأ من "أَبسط" أرضٍ، وأَقرب معنى، ليرتقي لاحقاً، قصيدةً قصيدةً، الى ذروة "كرمل" الشعر.  

لكنَّ العمر مهم لجهة "العصب الشبابي" الذي يطبع هذه القصيدة، حسب زعمي. فهنا عصب متحفِّز. هنا حنجرة طازجة تـُنشِد. هنا غضبٌ غنائيٌّ متقدٌ، يتناوب على القصيدة مع سردٍ يحكي ويقصُّ، لنظفر بنواة ملحمةٍ صغيرةٍ، لن تكون الأخيرة في مسيرة الشاعر الذي أصرَّ على أَن يموت (أو يحيا)، وهو يملك قامة معتدلة، وقدمين عاملتين، وبديهةً حادة كشفرة، فذهب في تلك السَّفرة التي عاد منها بكفن ملفوف بعلم بلاده.   

*

كانت "قصيدة الأرض" ردَّ درويش الجمالي والوطني على قتلةٍ، قادمين من أقصى مكانٍ،  إلى مكانٍ لم يكن لهم فيه شجر أو حجر، راحوا يصنعون له تاريخاً مزوراً وينهبون أرضه التي زُرِعت، وأثمرت على مدار مئات القرون. كان يوم الثلاثين من مارس/ آذار عام 1976 يوم الأرض بحق. ففيه انتفضت فلسطين المحتلة عام 1948 ضد سحب الأرض من تحت أقدام أصحابها في إطار "مخطط تطوير الجليل" (= تهويده)، وسقط في المواجهات مع شرطة الاحتلال وجيشه، الأولى من نوعها هناك، ستة شهداء أشعل دمهم انتفاضة، ووعياً حيال ما تبقى من أرض لم تسرق من فلسطينيي الـ 48.

وبالنسبة إلينا، نحن الذين كنا في مستهل عملنا السياسي والصحافي (والكتابيِّ عموماً)، لم يكن ذلك اليوم، تلك الحادثة الوطنية الفاصلة، أَقلّ أهمية من وقوعنا على ما كان يسمى "شعر المقاومة" الفلسطيني الذي أهدانا محمود درويش، من بين كوكبة من شعراء فلسطين المقتطعة من جلدها الوطني والقومي. 

كان صوت الشعر يبدو، حتى ذلك اليوم، أَقوى من صوت الواقع. كان الشعر، إن جاز التعبير، يناضل، قومياً، نيابة عن الواقع الذي انحصر نضاله في الجانب "المطلبي"، ربما بسبب هيمنة الحزب الشيوعي الاسرائيلي على النشاط النضالي لفلسطينيي الـ 48، ولم يكن ذلك، للإنصاف، قليل الأهمية، ولكنه لم يكن كافياً.

من الخطأ القول إن فلسطينيي "الداخل" (تعبير آخر عن المحنة نفسها) اكتشفوا وعيهم القومي في تلك الآونة، فسؤال الهوية لم يفارق أفواه أولئك الفلسطينيين العرب الذين صار عليهم أن يكونوا "إسرائيليين". دعونا نتذكر، هنا، صرخة درويش "الشيوعي" الشهيرة "أنا عربي". لم تكن مشكلة درويش (فلسطينيي الداخل عموماً) مع المحتل الاسرائيلي "تحسين شروط" عيشهم، ولا فقط مساواتهم بـ"مواطني الدولة". كلا، لم تكن تلك هي المشكلة الأساسية، حتى وإن نادوا بذلك، بل كانت في سؤال: من نحن؟ الذي كان خفيض الصوت من قبل. فالأنا لا تحضر، على هذا النحو المجلجل، إِلا إِذا كان هناك "آخر". .. وأيّ آخر؟!

 

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن