سنة أقلّ سوءاً

05 يناير 2015
+ الخط -

الناس تتمنى لبعضها، نهاية كل عام، سنة سعيدة قادمة، إلا عندنا. لاحظت أن التهاني التي تبادلناها، لمناسبة قدوم السنة الجديدة، كانت شديدة الحذر والتوجّس. فمَن يجرؤ على الأمنية؟
سيظل هناك مَن يفعلون ذلك عن طوبى، أو عن إيمان ميكانيكي بحركة التاريخ. كأن هذه قوة قائمة بذاتها، منفصلة عمّن يدفع دواليبها الثقيلة التي يملأ صريرها أربعة أركان الدنيا. شعوب عديدة في العالم تستطيع أن تتمنى لنفسها سنة سعيدة قادمة، لا سنة أقل سوءاً كما نفعل. فما يمنعها من أن تتطلع إلى الأفضل والأسعد والأكثر خيراً، وليس إلى الأقل فداحة. فهذه شعوب وأمم أنجزت، باكراً، كل ما نتخبّط به اليوم. انتهت من تحررها الوطني التام (إن كانت مستعمرة)، فرغت من حروبها الدينية والطائفية والأهلية الدموية. حدّت من تهميش المرأة، وسنَّت قوانين تحفظ حقوق الطفل والمعاق، ووصلت إلى حد اعتبار السمنة نوعاً من إعاقة لا يجوز التفريق ضدها في العمل والحياة. وقلّلت، في هذا الطور ما بعد الصناعي من الرأسمالية، الفوارق الهائلة بين طبقاتها الاجتماعية. أقام كثير منها "دولة الرفاه الاجتماعي"، فلا مات الذئب ولا فنيت الغنم.
فلِمَ، بربكم، لا تكون أعيادهم حقيقية، وتمنياتهم واقعية؟ وطبيعي، في المقابل، أن نتمنى لأنفسنا، في خضمّ بحر العنف والدم الذي نتخبط فيه، أمنيات على "قد الحال". أنظروا إلى أدبنا الذي يعاني فقراً مدقعاً في الخيال والحلم. أليس ميل شعرنا، ما بعد التفعيلة، إلى النثر، بل النثرية شبه التامة، دلالة على تحولات واقعنا، أو رداً على هذه التحولات التي لم يعد ممكناً معها "تنضيد" الواقع في صفوف وخانات متناسقة، يلحظها إيقاع هندسي معلوم، ذو موسيقى معطاة سلفاً. فلا شيء يمكن تحديده، في هذا الواقع المتماوج، سلفاً. ولا هناك برٌّ يلوح. فالاختلاط ميزة لحظتنا. فنحن، اليوم، حيال كل المهام التي واجهتها شعوب كثيرة دفعة واحدة: فالكفاح الاستقلالي يختلط بالصراع الديني والطائفي والطبقي والنهضوي. كل ما مرَّت به شعوب أوروبا الغربية وأممها، في ثلاثة قرون أو أربعة، نقف الآن، أمامه، وجهاً لوجه.
لهذا، برأيي، لم يستو الربيع العربي، ولم يتمكن من أن ينهض، من تلقاء نفسه، على قدمين. وهذا هو الفارق الجوهري بيننا وبين شعوب أوروبا الشرقية التي مرَّت بتجربة "الربيع" والتحولات الديمقراطية. فهي، أصلاً، شعوب أوروبية. كان لبعضها صناعة وتجارة وفلاحة قائمة. جرت فيها صراعات أهلية ودينية مماثلة، ومرَّت بالتحولات نفسها من الإقطاع إلى البرجوازية والتصنيع، وظنت أنها قفزت، مباشرة، إلى الاشتراكية، المقدمة الضرورية للشيوعية. ولكن، عندما انهار حزبها "القائد"، لم تنهر هي نفسها. لا شيء فيها انهار سوى جهاز الأمن وسلطة الأمين العام، وصار ممكناً، بعد غياب سلطة الأمن، أن تلتحق بالديمقراطيات الغربية. لم يتقدم الجيش، الذي يملك زمامه الأمين العام، إلى الشارع، ويعيد الناس إلى بيوتهم. ولا أردت بنادق رجال الأمن المتظاهرين صرعى. ولأن لا شيء من هذا حدث، أمكن لـ"الربيع" أن يزهر.
وبالمعنى سالف الذكر، المقارنة بيننا وبين شعوب أوروبا الشرقية غير واردة. لأننا ننسى الكلمة السحرية: أوروبا. ونحن لسنا أوروبا، ولم ننهض كما نهضت. وحدها تذكّر بأوروبا العصور الوسطى الصراعات الدينية والطائفية التي عرفتها تلك البلدان، قبل أن تنجز الأمة الدولة: صراعات دموية بين كاثوليك وبروتستانت، باباوات وملوك، إقطاعيين ونبلاء ورجال تجارة ومال.
فهل ينبغي علينا، كما لمّحت إلى ذلك كتابات عربية، أن نمر بالحرب الأهلية، أن ننجز حربنا الدينية والطائفية، حتى يدرك الجميع، بعد دم كثير، أن للسياسة طريقاً لا يمرّ بالنص الديني، ولا يقف على أمرها رجل معمّم، وأن للصراعات منابرها التي لا ترشح دماً؟
رغم كل شيء، كل عام وأنتم بخير.

 

 

 

                                                                           

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن