ريتا سعادة.. تجليات من بُعدٍ أخر

06 ابريل 2014
"كائن من نور"
+ الخط -

اليوم الذي أدركت اللبنانية ريتا سعادة فيه بأنها كائن فانٍ كان أتعس يومٍ في حياتها. منذئذ وهي تبحث عن علامات داخلها وحولها تمنحها الأمل بديمومة أو حياة بعد الموت، وبالتالي تواسيها وتصالحها مع نفسها. ويظهر هذا البحث بقوة في جزء مهم من عملها الفوتوغرافي الذي تجهد فيه إلى التقاط مختلف تجليات النفْس البشرية خارج غلافها، ضمن سعي واضح منها لإثبات ثنائية الجسد والروح، المادي والأثيري.

وقد يمنح هذا المدخل إلى عمل سعادة انطباعاً للقارئ بأنها ليست سوى شخص آخر ينتمي إلى طائفة كبيرة من الناس المهجوسين ـ بسذاجة ـ بعالم الأرواح، والمستعدين إلى تصديق أي شيء يلغي، أو على الأقل يخفّف، من خوفهم من مصيرهم المحتم، الموت. لكن حين نتفحّص مسعى سعادة ونتمعّن في نتائجه السعيدة والمذهلة، يتبدد هذا الانطباع ويحلّ مكانه ارتعاشٌ يبلبِل قناعاتنا المبنية في الواقع على فرضيات رفعها زمننا المادّي، بدون إثبات مقنع، إلى مرتبة "الحقيقة".

من هذا المنطلق، نقيّم عمل سعادة وندرجه، بلا مبالغة، في سياق مَن سبقها على هذه الطريق من فنانين وكتّاب كبار، بدءاً بالشاعر والفنان ويليام بليك، مروراً بالكاتب المسرحي أوغست ستريندبرغ، وبالشاعر والرسام فيكتور هوغو، وانتهاءً (وليس نهايةً) بالسورّياليين؛ وجميعهم رفضوا دكتاتورية المنطق والعقلانية وسعوا إلى مساءلة وتجسيد المحجوب، وإن من منطلقات وبطُرُق مختلفة.

وقيمة بحث سعادة وثماره على المستويين الجمالي والميتافيزيقي هي التي تفسّر قيام "المعهد الفرنسي" في بيروت بتنظيم معرض لها حالياً يحمل عنوان "كائن من نور" ويتألف من آخر أعمالها الفوتوغرافية التي تتوزع على سلاسل (series) أربع وفقاً لموضوعاتها.

في السلسلة الأولى التي تحمل عنوان "ثمة أحدٌ ما هناك"، نتأمّل صوراً بالأسود والأبيض لمشاهد داخلية أو خارجية تبدو عادية عند الوهلة الأولى، لكن ما أن نمعن النظر في كل منها حتى يتجلى لنا حضور طيفٍ بتفاصيل دقيقة ومربكة. والمثير في هذه الصور هو أن الفنانة لم تتعمّد التقاط الأطياف التي تحضر داخلها بل عثرت عليها داخل الصور لحظة تظهيرها، أو ظهرت لها لحظة التقاطها للصورة.

وحول هذه التجليات المدهشة، تقول سعادة: "لقائي الأول بهذه الكائنات النورانية حصل عام 2005، خلال التقاطي الصورة التي تحمل عنوان "Frigo". إذ ظهر أمامي طيفٌ يقف على الكرسي ويتأمل محيطه بابتسامة لطيفة، كما لو أنه في زيارة لأشخاص عزيزين عليه. حضورٌ أثيري أيقظ داخلي ذكريات سعيدة ووضعني في حالة حُلُمية".

وبعد هذا اللقاء، كانت للفنانة لقاءات أخرى من هذا النوع جعلتها تبحث بشكلٍ جدّي عن وسائل مختلفة لتجسيدها، مسائلةً في طريقها ظروف هذه التجليات التي غالباً ما ترتبط بأماكن محدّدة مشحونة عاطفياً.




من هنا سلسلة صور "منزل" التي نشاهد فيها غرف منزل فارغة من أي حضور بشري، لكنها تبدو بأثاثها وأجوائها الحميمة مشحونة بذكريات كثيرة تحضر إلى ذهننا بشكلٍ حدسي ومعها معيش مَن كان (أو لا يزال) يسكنها، فيتراءى لنا خارج حضوره المادي.

من هنا أيضاً سلسلة صور "كائن من نور" التي سعت سعادة فيها إلى تصوير طاقة الحياة فينا، وهي طاقة من نور صافٍ تلتقطه عدسة الكاميرا بوضوح ما أن يقوم الجسد بحركةٍ ما. ويتجلى ذلك بقوة في الصور التي أنجزتها الفنانة لراقصات وراقصين محترفين خلال أداءاتهم، ونشاهد فيها كيف يفقد الجسد حضوره المادي ويتحول إلى غلافٍ أثيري.

أما سلسلة "بحثاً عن طفولة ضائعة" فتقترح علينا بصورها مساراً مؤثّراً يبدأ بطفلة نراها تختبئ ثم تبحث عن ذاتها مبتكرةً مشاهد درامية لم تعِشها، لغياب الأم في حياتها، قبل أن تنجح من خلال هذا التمثيل السيكولوجي المسرحي في تقبّل وحبّ ذاتها.

ولا تبتعد هذه السلسلة من الصور عن مسعى سعادة الرئيس إلا في ظاهرها. فمن خلالها، تسلّط الفنانة الضوء على الطفولة، طفولة النفْس، كمصدر نور وإشعاع لا ينضب لنا، وبالتالي على ضرورة العودة إلى تلك المرحلة من حياتنا في كل مرة نفقد فيها البوصلة الموجهة لخطواتنا داخل عالمٍ يزداد عتمةً.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يدوم المعرض لغاية 26 نيسان/ إبريل الجاري

المعهد الفرنسي ـ شارع دمشق، بيروت

المساهمون