ذلك العبء الثقيل

18 مارس 2017

(مريم سمعان)

+ الخط -
لطالما فكّرت بجملةٍ شهيرةٍ، قالها ذات يوم مارتن لوثر كينغ "قرّرت أن أتمسك بالحب، الكراهية عبء ثقيل لأحمله". كنت أظن هذا القول نوعا من أنواع التنظير. مناضلٌ له أتباعٌ، يؤمنون بما يقوله ويفعله، وعليه أن يضعهم على الطريق الصحيح في مسيرة نضالهم، كنت أظن أنه لا يمكن للكائن البشري أن يتخلص من مشاعر الكراهية والحقد، وأنها جزء من التركيبة البشرية، عدم الاعتراف بها أو محاولة نفيها لا يغيّر من حقيقة وجودها. كنت أظن أيضا، أنه من الإنسانية أن تشعر بالحقد والكراهية تجاه من تسبّب لك بالأذى، أو تجاه أشخاصٍ محايدين، لكنهم لا يعجبونك، أو تجاه من يتفوق عليك بشيء ما، كنت، إلى مرحلةٍ متقدمة قليلا من عمري، أربي الكراهية كما أربي الحب، وأعتني بها وبنموها داخلي، من دون أن أنتبه إلى أفعالها الخفية في لاوعيي، ولا إلى آثارها، وهي توجه مسار حياتي.
كنت مأخوذةً بفكرة أنني أمارس طقسي الإنساني بكامل حريتي، وأختبر كل مشاعر هذا الطقس. مع الوقت، بدأت أصاب بأرق يومي، يبدأ مع التفكير أول الليل بهؤلاء الأشخاص الذين أحمل لهم مشاعر الضغينة والكراهية، وبالطرق التي يمكنني أن أنتقم منهم بها، كنت أرغب في رد الصاع صاعين لمن أساء لي. وهذا كان يشغل مساحةً كبيرةً من تفكيري ووقتي، وبدأت أفقد الثقة بنفسي، إذ اعتقدت أن الأذى الذي يحصل لي سببه علة بي، ولأثبت لنفسي أنني غير معلولة، يجب أن أنتقم وأرد الأذى، شيئا فشيئا كان العالم يزداد سوءا بالنسبة لي. حياتي بحد ذاتها كانت تشبه الكارثة، أنا مشحونةٌ بطاقةٍ سلبية كثيفة، وحياتي ثابتة، لا شيء فيها يتحرّك سوى الوقت، يعبرني من دون أن أفعل شيئا لأحسّن حياتي نحو الأفضل. الغضب من الآخرين كان يمنعني من المضي في حياتي، الغضب من الآخرين، ومن الحياة نفسها، الحياة التي كنت أراها غير عادلةٍ معي، التي لم تعطني ما كنت أظن أنني أستحقه.
باختصار، لم أكن أعرف ما هو السلام والطمأنينة الداخلية، كنت أبعد ما يمكن عن الرضا الذي يمنحهما، من أين سآتي بالرضا؟ أرّقني طويلا هذا السؤال، قرأت تلك الفترة عن ثقافة (الكارما) التي تختصر بأن الحياة تعطيك ما تعطيها، وأن طاقتك الإيجابية تجعل الحياة منصفةً معك، وهي من يعيد إليك حقك الضائع، عليك فقط أن تتخلى عن الكراهية والحقد، أن لا تستهلك طاقة حياتك بهما. احتاج الأمر مني تدريبا ذهنيا يوميا، لكي أصل إلى مرحلة التسامح مع من أساءوا لي. احتاج أيضا وقتا لكي أرضى بما أنا عليه، وأرضى بأن ما يملكه الآخرون، قد أملك أفضل منه يوما. علي فقط أن أوجه ذاتي وذهني نحو الحب والتسامح. لم يكن الأمر سهلا، غير أن النتيجة كانت مذهلة بعد حين، حين بدأت أتخفّف من ثقلٍ كان يضغط على حياتي، من قيد الكراهية وأسرها. فجأة بدأت أشعر أنني خفيفة، وأن أفكاري عن الكراهية والحقد والانتقام كانت تستعبدني فعلا. درّبت ذاكرتي على النسيان، على إماتة ما كان يسبب لي الكدر في حياتي، ودفنه في تلابيب الذاكرة. بالتأكيد لاوعيي يعيده أحيانا، لكنني صرت قادرةً على إعادة إماتته بسهولة. طريقة القتل الرمزي للأشخاص والأحداث السيئة في ذاكرتي أصبحت وسيلتي للانتقام، أن لا أمتلك أية مشاعر تجاه من سبب لي الأذى، كما لو أنه لم يوجد يوما في الحياة، أن لا أصرف مقدارا ولو قليلا من الطاقة في التفكير بما فعله بي هذا الشخص أو ذاك، هو السبيل الوحيد للرضا، الرضا الذي جعلني مقبلةً على الحياة بحب كبير. بعد هذا التدريب الطويل، بدأت حياتي تتغير، أصبحت امرأة أخرى، أعطتني الحياة ما أستحق وأكثر، صرت أشعر أنني حرة فعلا، حرة وقوية، وأنا في أقصى حالات ضعفي وخيباتي.
ملاحظة: وأنا أكتب هذا النص، كان الشريط الإخباري ينقل أخبار الموت في سورية، قصف وتفجير، والضحايا هم المدنيون. أود أن أقول إن كلامي أعلاه لا ينطبق على المجرمين والطغاة والقتلة.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.