خبز ورعاة

30 يوليو 2018

(إبراهيم الصلحي)

+ الخط -
ليس افتتاني بهذه المنطقة (الحَرّة) التي تقع شمالي شرق بيت أهلي في المفرق بلا وجاهة. فكل مرة يأتي خبر "أبيض" من بين حجارتها السود. هي ليست مرابع طفولة لأحد، على الأغلب. أقصد أناسنا المعاصرين. الحَرَّة مكان خالٍ تقريبا من الاجتماع المعهود في البادية الأردنية الشمالية.
تبدو لناظرها في الظهيرات مقبرةً لنجوم مطفأة، أو شموساً سوداء. يمكن أن يحدث هذا. كل شيء فيها هو من معدن النار نفسها. ذهبت إلى الحَرّة كثيرا، وكتبت عنها كثيرا أيضا، وكل مرة يكون هناك شيء جديد لم أره، أو أسمعه، من قبل وبالتأكيد، لن أراه إلا بعوداتٍ لا تُحصى.
كل مرة أذهب إلى ذلك المجاز الحجري، المنقطع تماماً عن عالم اليوم، أشعر بالمكان يتخلّلني ويستولي علي. هناك يمكن للمقدّس أن يفرد لك صفحات مجهولة. ويمكن للغة أن تريك طفولةً أولى. والشعر خطواتٌ وحبوٌ ولثغ. الطبيعة الضارية للمكان حفظت لقىً وهدايا تتكشّف مرة فأخرى: من ذاك مثلاً أن اللغة العربية قد لا تكون رحلت إليها من الجزيرة العربية، بل العكس! نعرف عن مروياتها أنها كانت مرابع آلهة آرامية. ومُعتَكفاً للمذهب النسطوري، وتذهب هذه المرويات إلى حد مرور النبي محمد وزوجته خديجة بها، في طريقهما إلى الشام في رحلة قوافل تجارية كانت معهودة بين الحجاز والحواضر السورية، وإقامتهما تحت شجرة بطم ضخمة تعرف اليوم بـ" شجرة البقيعاوية". وهذا مجال درس علمي وبيئي، يطاول الشجرة نفسها التي تحوّلت، الآن، مزاراً دينياً وسياحياً.
أتحدّث عن مئات الأميال من "الفقع" البازلتي، تكاد تمتد إلى ما لا نهاية. كأنها صورة لا تني تكرّر وتكرر. الأمكنة لا تستنفذ حتى في أضيق مساحةٍ ممكنة، فما بالك في مساحةٍ جغرافية تقدر بنحو 12 ألف كليو متر مربع؟
هكذا لم يكن مستحيلا أن لا تضم هذه المساحة المترامية، من الأرض والبازلت، أسرارا ستكشف عنها الأيام والأبحاث.. القليلة جدا على هذا الصعيد. لم يفاجئني أن يُعثر في أحد جوانبها العميقة على ما يُعتقد أنه أول رغيف، كامل المواصفات، في موقدٍ ناري كأنه ترك قبل عشية وضحاها، على الرغم من تفحّمه. رغيف خبز من حبوبٍ لم تُعرف، على نطاق واسع، إلا بعد الاستيطان البشري و"اكتشاف" الزراعة، أو اختراعها. أن تجد رغيف خبز يزيد عمره عن أربعة عشر ألف عام، فهذا لعمري حدثٌ مذهلٌ، ويقلب نظرياتٍ وأفكارا عن الجغرافيا البشرية والبيئة لما تبدو، اليوم، صحراء بلقعاً لا ماء فيها ولا خضرة، كما يكشف عن نوعية التغيرات العمرانية التي طاولتها منذ نحو ثلاث ألفيات، قبل أن يحولها الجفاف الكبير الذي ضرب شرق المتوسط، بلاد الشام خصوصا، إلى صيفٍ طويلٍ ويغير طبيعة أرضها.
قلتُ مدهشاً، بكل قياس، أن يبقى هذا الرغيف شاهداً على تحولات الجغرافيا والبشر في هذه المنطقة من بلاد الشام التي شهدت، مع توالي الأدلة، بدايات الاستيطان البشري، وانتقال الإنسان، من طور الصيد والترحل إلى الإقامة في المكان وتعميره، وجعله صالحا لعيش مستدام يتجاوز، لاحقاً، لقمة العيش إلى سنَّ اللغة وإعمال الفكر واجتراح الفنون والحاجات الجمالية. لكن المدهش أكثر أنني، ابن منتصف القرن العشرين، رأيت بنفسي حُفرا كهذه لم يحفرها النطوفيون الذين ينسب إليهم رغيف الخبز المذكور، بل أبناء عمومتي ممن كان لأهلهم "حلال" عليهم رعيُه في الأرجاء. كان الراعي الرئيسي، حميد، وكان علينا، أقاربه الأصغر سناً، مساعدته في لمِّ شتات القطيع، وتوجيهه وجهة معينة. في خرج حميد ثلاث أو أربع صُرر، لا بد منها لكل راعٍ يقضي سابحة نهاره في البر: صرّة فيها قطعة عجين، أخرى فيها المساة، وهي مادة مستخرجة من معدة حمل رضيع، تحوّل طاسة الحليب، المحلوب فوراً، إلى قطعة جبنة بيضاء رجراجة جاهزة للأكل، والثالثة والرابعة شاي وسكر. لا تحتاج قطعة العجين (غير المخمّر) سوى إلى حفرة نارٍ كتلك التي صنعها النطوفيون، ثم دفن كتلة العجين، أو ترقيقها، داخلها، فنفضها من الرمادة وأكلها، بعدما تكون رائحتها التي كانت تسميها جدتي: ألذ اللذيذ. فاحت في الجور. لسنا من بقايا النطوفيين، وقد نكون، لكن حفرة نار "الحَرَّة" ورغيفها ظلا قروناً قيد العمل، بعدما عادت المنطقة، إثر الجفاف الكبير، إلى الرعي، وتنقّل قبائلها من طرفٍ إلى آخر، بحثاً عن عشبةٍ ونقرة ماء.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن