حصار صحافيي مصر... قطع أرزاق الناجين من الاعتقال

صحافيو مصر (محمد الشاهد/فرانس برس)
17 يوليو 2020
+ الخط -

بعد الإفراج عن الصحافي المصري محمود السعدني من السجن في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، ظن أن مشكلته مع السلطة انتهت، لكنه فوجئ بأنه مفصول من مؤسسة روزاليوسف، وأنه ممنوع من الكتابة ومحظور على الصحف نشر اسمه، "حتى في صفحة الوفيات" كما يقول كتابه "الولد الشقي في المنفى"، ليظل بلا عمل ودون دَخْل لأن مشكلته كانت مع "الرئيس وهو وحده من يقرر ولا أحد سواه"، كما أخبره وزير الثقافة الراحل يوسف السباعي، إلى أن عمل مع صديقه ووزير الإسكان والتعمير ومؤسس شركة المقاولين العرب عثمان أحمد عثمان بعيدا عن مجال الصحافة، لكنه فوجئ بأن تعيينه كان صوريا وكان راتبه "حسنة من جيب عثمان أحمد عثمان" عقب محاولته الحصول على تصريح من عمله للسفر من أجل علاج ابنته في لندن.

سافر السعدني إلى العاصمة البريطانية، واستدان من الكثيرين، وبعدها انتقل إلى قطر والإمارات للعمل في الصحافة، فهو كما يقول عن نفسه: "لقد خلقني الله صحافيا أشم رائحة الورد بين ماكينات الطباعة، وفي عروقي يتدفق حبر أحمر"، لكنه في النهاية ذهب إلى بيروت، ليعمل براتب ضئيل، لا يناسب كاتبا كان رئيسا لتحرير مجلة أسبوعية كبرى، بحسب وصفه، واستمرت رحلة معاناة السعدني وتنقله بين دول عربية ولندن إلى ما بعد وفاة السادات بعام كامل، في حلقة من حلقات مسلسل حصار الصحافيين المصريين في أرزاقهم بعد اعتقالهم، ولم يكن السعدني أولهم، وبالطبع ليس آخرهم.

الصحافة الأجنبية والمحلية تحت الحصار

أصبحت الوقائع المرتبطة بالتضييق على الصحافيين الأجانب متكررة ومتنوعة، من بينها استدعاء رئيس الهيئة للاستعلامات ونقيب الصحافيين ضياء رشوان، مديري مكتب صحيفتي "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" بالقاهرة، خلال شهر مايو /أيار الماضي، ليطلع الأول على "التجاوزات المهنية التي اتصفت بها التقارير التي نشرها عن مصر في الفترة الأخيرة، وما تضمنته من مغالطات ومعلومات غير صحيحة، وإهدار لكل قواعد المهنة الصحافية"، بعد إنذار سابق لمراسل الصحيفة في شهر إبريل/نيسان الماضي، وسبقه إلغاء السلطات المصرية اعتماد مراسلة صحيفة الغارديان البريطانية في مارس/آذار الماضي، على خلفية تقرير بخصوص تفشي مرض كوفيد-19.

ومنعت مصر في ديسمبر/كانون الأول 2019، داود كُتَّاب نائب رئيس المعهد الدولي للصحافة من دخول البلاد، وفي شباط/ فبراير من نفس العام، منعت المدير السابق لمكتب صحيفة (نيويورك تايمز) ديفيد كيركبارتريك من دخول مصر. وفي نيسان/ إبريل 2017، منعت السلطات المصرية الصحافي السوداني الطاهر ساتي من دخول مصر، وبعدها بأربع وعشرين ساعة منعت القاهرة، الصحافية السودانية إيمان كمال الدين من دخول البلاد، وفي مارس/آذار 2015 منعت السلطات صحافيا بريطانيا من دخول البلاد لتغطية اجتماعات القمة العربية، واكتفت المصادر الأمنية بالإشارة إلى الحرفَين الأولَين من اسمه (أ. س).

شهدت مصر خلال فترة الاحتلال ترخيص "ثلاثمائة دورية لم يعمر بعضها طويلا، وبلغ عدد الصحف المرخص لها في مصر عند قیام ثورة یولیو ما یزید عن المائة صحیفة

وسبق للسلطات المصرية، أن داهمت مقر وكالة الأناضول للأنباء في يناير/كانون الثاني الماضي، وقبلها أغلقت مكاتب قناة الجزيرة في مصر، في اليوم التالي للانقلاب منتصف 2013، وأغلقت عقب إذاعة بيان الانقلاب العسكري عدة قنوات أبرزها مصر 25، كما أغلقت جريدة الحرية والعدالة التابعة لحزب الحرية والعدالة في سبتمبر/أيلول 2013، وجريدة الشعب في يناير 2014.

تاريخ حافل بالتضييق 

مرت الصحافة المصرية بتاريخ حافل من التضييق، وإن كانت قد شهدت خلال فترة ما قبل  يوليو/تموز 1952 أفضل أوقاتها، بالرغم من الاحتلال البريطاني، إذ حصلت "ثلاثمائة دورية على تراخيص للعمل وبعضها لم يعمر طويلا، وبلغ عدد الصحف المرخص لها في مصر عند قیام "ثورة یولیو" ما یزید عن المائة صحیفة! بما یكشف عن توفر إمكانیة إصدار دوریة ما، بغض النظر عن ضمان استمرارها في الصدور، فالأمر لا یتطلب اقتناء أصول مكلفة"، بحسب المؤرخ الراحل رؤوف عباس في دراسته المنشورة بدورية أحوال مصرية ربيع 2007، بعنوان "تاريخ الصحافة المصرية".

ثم كان عهد عبد الناصر الذي قام فيه بتأميم أو إغلاق الصحف، وأصبحت في مصر ثلاث صحف فقط؛ "الأهرام والأخبار والجمهورية"، كما أصبح إصدار الصحف بترخيص من الاتحاد القومي، بعدما كانت بمجرد الإخطار، وفي عهده تم الحكم على مصطفى أمين بالسجن 9 سنوات بتهمة التخابر مع أميركا، ثم طلب أمين إعادة محاكمته بعد وفاة عبد الناصر فقضت المحكمة ببراءته.

أما السادات، فقد شهد عهده بداية انفراجة في الصحافة، فأعيد صدور جرائد حزبية كالوفد والأهالي، وجريدة الاعتصام القريبة من جماعة الإخوان المسلمين، وعقب كامب ديفيد واعتقالات سبتمبر، تم الزج بالعديد من الصحافيين في السجون، ليتم تضييق هامش الحريات مرة أخرى.

ثم شهد حكم مبارك صداما مع الجماعة الصحافية بإصداره القانون رقم 93 لسنة 1995، الذي تضمن تغليظ العقوبات في جرائم النشر، وعلى أثره أعلنت نقابة الصحافيين الانعقاد الدائم للجمعية العمومية غير العادية حتى يتم إلغاء القانون، ليتجاوب مبارك ويصدر القانون رقم 96 لسنة 1996 بعد صراع استمر لعام كامل.

الصورة
قانون الصحافة/الصحافة المصرية/أحمد رمضان/الأناضول/Getty

 

الإغلاق قبل الثورة وبعدها

عملت الصحافية المصرية نادية (طلبت عدم الكشف عن هويتها حتى لا تتعرض للتضييق في عملها الحالي)، في مطبوعة الموقف العربي المغلقة في عهد مبارك، ومن خلال تجربتها في تلك الفترة تُفرِّق بين نوعين من الإغلاق، فهناك "إغلاق سياسي وإغلاق مادي، ولا أذكر أنه جرى إغلاق سياسي سوى لجريدتين، (صوت العرب) أواخر الثمانينيات، لقيام رئيس تحريرها بمهاجمة ملك السعودية بشدة، وجريدة (الشعب) عقب حملاتها القوية عن التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، لكن بقيت المرتبات تُدفع لهم دون زيادة، وكان مطلب زيادة المرتبات إحدى معارك صحافيي الشعب". وسبق لمبارك أن أغلق أيضا جريدة "مصر الفتاة" عام 1992 بسبب انتقاد سياسات المملكة العربية السعودية على صفحاتها.

وتضيف نادية أن "نظام مبارك كان يتعامل مع الجرائد التي تخرج عن الحدود بالضغط على المُعلنين لمنع التعاقد مع هذه الجرائد. وصدور الجريدة بدون إعلانات أمر شديد الصعوبة بسبب ارتفاع تكاليف الإصدار، وبهذه الطريقة توقفت جرائد مثل (البديل) عام 2009 و(الموقف العربي) عام 2010 و(العربي الناصري) بعد الثورة عام 2014 وغيرها، فكانت الجرائد تعمل لكن بتضييقات مالية شديدة تؤدي إلى الإغلاق في النهاية".

أما عن فترة ما بعد ثورة يناير، بحسب نادية، فقد كان الصحافيون الذين أُغلقت مؤسساتهم يعملون بصورة من اثنتين، "إما أن يتماهوا مع المزاج العام للنظام السياسي الموجود سواء كان هذا التوجه متوافقا مع مبادئهم أو غير متوافق، وإما أن يعملوا بالقطعة ربما في مساحات بعيدة عن السياسة ودون وجود مقابل شهري ثابت، الأمر الذي اضطر عددا من الصحافيين إلى البحث في أرشيف عملهم ليقوموا بتجميع أعمالهم السابقة سواء أكانت مقالات أم حوارات صحافية لإصدارها في كتب، والبعض الآخر سافر خارج مصر للعمل في مؤسسات أخرى، أو التعاقد لكتابة مقالات رأي مع جرائد دولية، كما اتجه عدد منهم للعمل في القنوات الفضائية باعتبار أن دخلها أكبر من المؤسسات الصحافية".

تغيير المهنة: من الصحافة للتجارة

عقب الانقلاب العسكري وإغلاق العديد من المؤسسات الصحافية، ازدادت الضغوط على المواقع المستقلة، فاضطر موقع البديل إلى الإغلاق نهائيا في إبريل/نيسان 2018، وتم استدعاء رئيسة تحرير موقع مدى مصر عدة مرات لجهات أمنية، فضلا عن مداهمة المقر في نوفمبر 2019 واعتقال رئيسة التحرير وصحافيين آخرين، لتعاود قوات الأمن إطلاق سراحهم بعد ساعات من احتجازهم. واقتحمت السلطات المصرية مقر موقع مصر العربية مرتين، الأولى مطلع 2016 والثانية عقب الانتخابات الرئاسية عام 2018، ولا تزال تعتقل رئيس التحرير عادل صبري منذ ذلك الوقت.

إحدى الصحافيات السابقات بالموقع وطلبت تعريفها بـ"مي"، تروي تجربة العاملين به عقب اعتقال رئيس التحرير، وبحسب تقديرها، فإن "اعتقال رئيس تحرير الموقع أوائل إبريل 2018 وتشميع مقر الموقع أديا إلى انخفاض عدد الصحافيين إلى النصف أو أكثر، واتجه بعضهم لتغيير مهنتهم رغم كفاءتهم، عبر العمل في مجالات تجارية لتجنب المخاطر والتضييقات التي يتعرضون لها، ومن استمر في عمله فإنه يعمل في أضيق الحدود فممنوع عليه النزول للشارع بكاميرا أو حتى بقلم يُظهر طبيعة عمله، ليصبح تقصي آراء الشارع صعبا، ودون صور أو مقاطع فيديو مما يقلل من مساحات الأفكار وجودة المادة نفسها، وبعضهم كان يتم رفض توظيفه في أماكن أخرى بمجرد معرفة أنه سبق له العمل بموقع مصر العربية، فاضطر بعض الزملاء للبقاء دون عمل لمدة قد تزيد عن سنة دون وجود مصدر دخل، واعتمدوا على مساعدة ذويهم أو العمل بالقطعة".

وبحسب مي، فإن المصادر، عقب حجب الموقع، "كانت ترفض الرد على تساؤلات الصحافيين بالموقع بمجرد ذكر اسم مصر العربية أو الرد باقتضاب شديد لا يفيد الموضوع، وأحيانا يأتي الرد باستنكار "كيف تعملون حتى الآن؟"، هذه الظروف بالإضافة لاعتقال رئيس التحرير اضطرتنا "لتخفيض سقف العمل"، ولم تعد كل الموضوعات متاحة للتناول".

الأوضاع التي تعاني منها الصحافة المصرية جعلت الأطراف المعنية بأوضاع الصحافيين، غير قادرة على متابعة الأوضاع المعيشية للصحافيين العاطلين عن العمل. فبحسب أكرم، وهو كادر نقابي سابق في نقابة الصحافيين المصرية (طلب عدم الكشف عن هويته) ، فإنه "يصعب عمل إحصاء لعدد الصحافيين الذين فقدوا وظائفهم عموما، فالأسباب عديدة منها الفصل التعسفي أو إغلاق المؤسسات أو توقف الصحافي عن العمل بسبب الإحباط الناشئ عن سوء المناخ العام"، مستدركا أن هناك "إحصاءً بوجود أربعة وعشرين صحافيا معتقلا، وربما يكون هذا الرقم قابلا للزيادة بحسب معيار توصيف الصحافي، فمعيار النقابة يكون لمن مارس مهنة الصحافة لمدة زمنية ولديه أرشيف واضح ومُعلن ولا تتم التفرقة بين كونه عضوا نقابيا أو غير نقابي، وهناك من يقوم بتوسيع التوصيف الصحافي ويعتبر التدوين مثلا صحافة شعبية، فلهذا يزيد الإحصاء بهذا الاعتبار".

وأصدر المعهد الدولي للصحافة بيانا أوائل مايو/أيار الماضي، طالب فيه السلطات المصرية بالإفراج عن 60 صحافيا من بينهم مدونون، ويُعرّف المعهد نفسه بأنه شبكة عالمية معنية بحقوق الصحافيين ومكونة من كبار الصحافيين والمحررين ومديري الصحف والقنوات الإعلامية حول العالم، ومقرها الرئيسي في فيينا.

أما عن ظاهرة الفصل التعسفي، فيعتبر أكرم أنها أصبحت "أكثر انتشارا خلال السنتين الأخيرتين، وربما يصل العدد إلى مئات، سواء أكان فصلا مباشرا أم إغلاقا لأماكن عملهم، وأكثر المتضررين كانوا في المؤسسات الخاصة أو المواقع الإلكترونية، وغالبا ما يرتبط الفصل بتوفير الميزانيات لا بالموقف السياسي، ففي ظل حصار الصحافة أصبحت القراءة أقل، وللأسف أغلب الذين يتم فصلهم هم الصحافيون غير النقابيين".

وحصر التقرير السنوي لنقابة الصحافيين الصادر عام 2019، حالات الفصل التعسفي في (جريدة الأنباء الدولية، وجريدة العالم اليوم) دون ذكر أعداد المفصولين، بالإضافة إلى شكويين مقدمتين من صحافيين تم فصلهما، بينما جرت تسوية أوضاع الصحافيين في جريدة الخميس بالاتفاق بين جميع الأطراف بحسب التقرير. وقامت نقابة الصحافيين في فبراير/شباط الماضي، بشطب الصحافي عماد الدين أديب من النقابة، لفصله "العشرات" من جريدة العالم اليوم وإغلاق ملفاتهم التأمينية بأثر رجعي منذ عام 2014.

وتحتل مصر المرتبة 166 من بين 180 في مؤشر حرية الصحافة وفقا لتصنيف منظمة "مراسلون بلا حدود" عن عام 2020، لتنخفض ثلاث مراتب عن عام 2019 الذي احتلت فيه المرتبة 163، وتَعتبر المنظمة مصر "أحد أكبر السجون في العالم بالنسبة للصحافيين"، وحسب تقديرات المنظمة، فإن مصر أغلقت "500 موقع منذ صيف 2017" وتُعرِّف المنظمة نفسها بأنها "منظمة مستقلة تحظى بصفة استشارية لدى الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو ومجلس أوروبا والمنظمة الدولية للفرانكوفونية. وتتخذ من باريس مقرا لها".

محاولة رصد الواقع الإنساني والمعيشي للصحافيين المصريين، تكشف حجم الأزمة التي تعيشها المهنة؛ فمن تحدثنا معهم إما رفضوا التعامل مع معد المادة بعد علمهم بمكان النشر خوفا من التضييق الأمني، أو فضلوا عدم ذكر أسمائهم لذات السبب، الأمر الذي يلقي الضوء على بقعة معتمة في المهنة؛ إذ لا يمكن إعداد مادة صحافية في ظل رفض المصادر التعامل مع المؤسسات غير المرضيّ عنها من قِبل النظام، كما أن الصحافي يعمل في ظل أجواء شديدة التوتر وملبدة بالخوف، لأنه لا يأمن الاعتقال وغياب مصدر دخل أسرته، كما أن مَلَكة الكتابة تتأثر بتباعد فترات العمل، ما يهدد الاستقرار المالي للصحافي، بما يحمله هذا التهديد من ضغوطات وأزمات معيشية كما تؤكد مصادر المادة.