حرائق دوما المَنسيّة

04 مارس 2015
حرب الإرهاب الداعشي والقاعدي صبت في صالح نظام الأسد
+ الخط -

بعد عرض "داعش" أحدث إصداراته من الأفلام الإجراميّة العجائبية، والتي كان آخرها بثه الفيلم الذي يُظهر حرق الطيّار الأردني، معاذ الكساسبة، حياً، لم تنتهِ ردود الأفعال الشاجبة لهذه الفعلة التي أثرت في الوجدان العالمي والضمير الإنساني وأيقظته من سباته، نظراً لبشاعتها وللكم الهائل من الدلالات والإيحاءات العنفيّة التي وُجهت للبشرية جمعاء، وليس فقط لأهل الكساسبة وبلده.

غير بعيدٍ عن الرقّة السوريّة، والتي تشير كلُّ الدلائل إلى أنّها كانت المسرح المفترض، أو "اللوكيشن" الفعلي للفيلم الإجرامي الخاص بحرق الطيّار الأردني، كانت دوما إحدى مدن الغوطة السوريّة، ومنذ بداية شهر فبراير/شباط الجاري، تتعرض لموجات تدميرية وكتل لهب حارقة راح ضحيتها أكثر من مائة وعشرين مواطناً سورياً، وخلَّفت ما يقارب ألف جريح تسبّب فيها المُحرِق الأول بشار الأسد وجيشه الذي دأب، خلال السنين الأربع الماضية، على التطبيق الحرفي والأمين للشعار الذي رفعته السلطة في وجه جموع الشعب السوري المنتفض، ذلك الشعار لم يكن إلا "الأسد أو نحرق البلد"، فالأسد وعصبته الإجراميّة كانوا أصحاب السبق والريادة في حرق المدن وصليها بكلِّ ما جادتهُ الآلة العسكرية من قنابل وصواريخ وبراميل حرَّقت الكثير من البشر وجعلتهم أشلاءً متناثرةً أو بقايا جثث متفحمة.

مشاهد الحرق "الدومانية" والأشلاء المُقطَّعة والمتناثرة لأطفالٍ وشيوخ وعجائز ملقاة ًفي شوارع هذه المدينة المحاصرة لم تؤثر أو تحرّك في الوجدان الإنساني مثلما فعلت صور حرق الكساسبة التي أنتجتها الميديا الإجراميّة الساحرة لمجرمي "داعش". فمن سوء حظ شهداء دوما خاصة، وسوريّة عامةً، أنّ المعارضة السورية وإعلامها الثوري لا يملك الأدوات الهوليوودية التي استخدمها التنظيم في التسويق لإجرامه. وأيضاً فإعلام القاتل على دناءته وعمله الدؤوب في تجميل صورة الطاغية وتبرير فظائعه ومجازره لا يستطيع أن يداني أو يقترب إلى الفاعليّة الإجرامية التي صنعها إعلام التنظيم، والتي أثرت أيّما تأثير في قلوب وعقول المتلقين حول العالم. الأمر الذي أدى إلى تغييب الإجرام الأسدي وحجبه في الإعلام العالمي لصالح مشاهد الإعدامات المتقنة والحرائق السينمائية التي أبدعها العقل الإجرامي للتنظيم.

الذاكرة الجمعيّة للعالم غزاها العطب وغلَّفها النسيان، فطاغيةُ دمشق وجيشه لم يبخلوا على العالم، فهم قدّموا، على مر سنين الثورة، وجبات إعلاميّة دسمة، بدءاً من اللقطات الأولى لرشِّ المتظاهرين العزل بالرصاص الحي، وصولاً إلى استخدام الدبابات التي غزت الحارات السكنية، وليس انتهاءً بمشاهد أطفال الغوطة الذين ماتواً خنقاً بكيماوي الأسد، بل إنّ الأسد

أبهر العالم بمشهديّة خاصة وهي "البراميل الحكيمة" التي تُسقطها مروحياته على الأحياء المدنية في حلب وغيرها، بشكل يومي، لتحيلها إلى ركام وأطلال خربة. هذه البراميل التي نفى الأسد استخدامها في أحدث مقابلة له مع شبكة الـBBC البريطانية عندما قال رداً على سؤال محاوره: "أنا على دراية بالجيش. إنهم يستخدمون الرصاص والصواريخ

والقنابل. لم أسمع باستخدام الجيش للبراميل، أو ربما، أواني الطهي" . بشار الأسد هنا يتحدّث باسم العالم لا باسمه فقط، فلولا الصمت والسكوت على إبادة شعب كامل بهذه البراميل التي سمّاها الأسد بالصواريخ، لما تجرأ أصلاً على نكران معرفته بها، لكن انزياح الاهتمام وتبدل الأولويات من إجماع سابق على فقدانه شرعيته والعمل على إسقاطه إلى تركيز كلَّ الجهود لحرب الإرهاب الداعشي والقاعدي ساعده في المضي في حرب الإبادة ضد الشعب السوري، واستمراره في تنفيذ سياسة الحرق الاستراتيجية، التي كانت وما زالت خياره الأوحد والأمثل في التعامل مع السوريين.

دوما اليوم تمثّل وتختصر الوجع والمأساة السورية، فهي ضحية التهديدات "التويترية" لجنرال جيش الإسلام، زهران علوش، الذي يسيطر عليها، والذي أعلن العاصمة السوريّة أكثر من مرةٍ منطقة عسكرية وضربها بصواريخ لم تصب إلا مدنيين عُزلا، ولم تنجح في خلق استراتيجية توازن الرعب التي سوّق لها مناصرو هذا الفعل، بل أدت إلى إعطاء حجج ٍلمناصري الأسد الذين طالبوه بمحو دوما عن الوجود، فكثّف من معدل إجرامه بحقها، ونفذّت طائراته أعنف الغارات التي استهدفت المدينة وأهلها البريئين الذين يعانون ويلات الحصار والجوع أصلاً. وأظهرت الصور التي بثها النشطاء من هناك صوراً للحرائق التي اشتعلت فيها جرّاء الغارات المتواصلة عليها. الأمر الذي دفع إحدى إعلاميات "الممانعة" إلى التهكم على المدينة ووصفها بالمدينة "المسلوقة أو المشويّة"، على حد تعبيرها.

نسيانُ أوجاع السورييّن، أو تجاهل مأساتهم، ليس بالشيء الجديد، والسأم والملل من مشاهد التقتيل التي باتت مشهداً ثابتاً في الحياة اليوميّة السورية، لم يعد مستغرباً من عالم يُستثار ويستشيطُ غضباً كلّما ظهر مقطع فيلمي جديد تبثه "داعش" للمشاهدين الأوفياء لنتاجها الإجرامي الابتكاري في العالم كلّه. لكنّ في الوقت عينه، يشيح العالم بصره ويتغاضى عن صور الموت اليوميّة المكرورة للسورييّن، التي لم تعد قادرة ًعلى تحريك المشاعر الإنسانية أو دغدغة الضمير البشري للعالم.


(سورية)

المساهمون