حديث النفس... وذكريات يناير

حديث النفس... وذكريات يناير

21 يناير 2016
ستظل يناير هي التاريخ الذي نعود إليه (فيسبوك)
+ الخط -
الجموع تغطي الأرض.. الهتافات تدوي في المكان.. الزمان يلتقط أنفاسه ووهجه من جديد.. السماء تلتقط النداءات.. الأرض تمور بالغضب.. الأمة المصرية تنتفض.. الميادين وما أدراك ما الميادين؟!


التحرير.. القائد إبراهيم.. الأربعين.. كل الميادين في كل المحافظات.. الميادين التي يملؤها الخوف والأمل.. الحزن على الشهداء والعهد على الوفاء.. أحذية المتظاهرين في وجوه المستبدين.. النوم كما نشتهي على أرصفة باردة تحتضننا ونحتضنها.. أدعية المؤمنين وصلواتهم.. الرقص والفرح والبكاء والألم.. كل شيء من مشاعرنا قد اجتمع ها هنا في هذه الميادين.. التي باتت تعرفنا ونعرفها.. تحبنا ونحبها، ونحزن إن تغيّرت معالمها التي حُفرت في ذاكرتنا.

لقد كبرنا خمسة أعوام كاملة عن هذه المراهقه الممتعة ولحظات الحياة الأولى السعيدة، لقد كبرنا خمسة أعوام كاملة وتغيّرت ملامحنا وتغيّرت أفكارنا ولم تتغيّر نداءاتنا الأولى، خمسة أعوام جاوزت أعمارنا وبعثتنا من جديد، لم نعد كما كنا ولن نعود؛ شيء ما قد مسَّنا من الجنون، جنون الثورة والغضب.

لقد خسرت أغلب رهاناتنا السياسية ولم تنجح كل الحيل التي اختلقناها لتغيير الواقع فعاد القديم ينبعث من كل ركن ومكان، ولكننا لم نخسر رهاناتنا الأخلاقية فلم نجد موطنا ينكّل فيه بضعيف ولا مظلوم إلا وكنا عونه ومعه، لم نترك ساحة من ساحات الدفاع عن الحرية والحقوق إلا وكنا فيها حتى وإن كنا كارهين، حتى وإن كانت موازنتنا السياسية تقول غير ذلك، من التحرير لماسبيرو، ومن محمد محمود للعباسية ومجلس الوزراء، بورسعيد والاتحادية، رابعة ورمسيس، كل الأرض تشهد علينا ونشهد عليها، لم نبرر لظالم، ولم نؤل لمؤامرة، ولم نتذرّع بالحفاظ على مكاسبنا أو مصالحنا، أو أن الثورة انتقلت من الميدان لأي مكان آخر، فدوما كنا أوفياء للميدان.

لم نحرّض على عنف ولم نشجع خطابا للكراهية يوما، ولم نقبل المزايدات ولم ننجر لصفها لا من الإسلاميين ولا من خصومهم، لم يغرِنا خطاب الإعلام أن نقول غير ما نعتقد، ولا نجد حرجا أن ننكر ونرفض الجهر بالعنف حتى ممن ظُلِم، لأننا لا تحركنا دوافع الانتقام ولكن حلم الدولة الوطنية التي تظل الجميع وتساوي بينهم.

منذ خمسة أعوام كان هناك طلاب في الجامعات يهتفون بسقوط النظام، اليوم خرجوا من الجامعات إلى الحياة، تملؤهم أيديولوجيا يناير وكثافة فكرتها، لم يتعرفوا أيديولوجيا قبلها فتثقلهم كما أثقلتنا قليلا وأثقلت من قبلنا كثيرا، لم يعرفوا نداءات الأيديولوجيا في جامعاتهم بل عرفوا نداء الحرية "الشعب يريد".

هناك من كانوا طلابا في المدارس الإعدادية والثانوية واليوم هم وقود الجامعات، هم اليوم خصوم الاستبداد والفساد، هؤلاء قادة النضال الجدد، صقلتهم التجربة فعلموا من السياسة ما جهلناه، وعلموا من الحرية ما افتقدناه في غالب أعمارنا.

لقد استطاعت يناير أن تبعثر كل أوراق اللعبة السياسية ليبدأ الجميع مرة أخرى، فاستقرار الاستبداد والفساد الذي أقرته دولة مبارك فككت أجزاءه وأركانه ثورة يناير، واليوم الجميع خصوم الجميع والتحالفات الهشة التي حققت بعض النجاحات لن تنجح أن تكون قلب الدولة الجديدة، وستستمر التقلبات والتغيرات إلى أن تستقر الأمور لشيء أفضل مهما كانت أثمانه غالية.

إن ثورة يناير كحدث تاريخي لا يمكن تجاورزها مهما حاول من ثارت الأرض ضدهم أن يعتبروها مؤامرة أو نكسة أو نكبة فسنظل نحن نعتبرها نصرا، "نصرا من أهم وأخطر أيام التاريخ، وربما جاء يوم نجلس فيه معا لا لكي نتفاخر ونتباهى، ولكن لنتذكر وندرس ونعلم أولادنا وأحفادنا جيلا بعد جيل قصة الكفاح ومشاقه ومرارة الهزيمة وآلامها وحلاوة النصر وآماله"، فهذا حدثنا ونصرنا الذي عَبَرنا به من مرارة الأيام والاستبداد إلى الحرية والكرامة، ونحن من حسن حظنا أنه عندنا الكثير من الحكايات عن أيامنا ونضالاتنا يمكن أن نقصّها يوما على أبنائنا.

بل حتى من عارضوا يناير وينكلون بأبنائها اليوم هم من يستندون إليها عندما يريدون ترميم شرعيتهم والحفاظ على مكاسبهم التي ما كانوا ليصلوا إليها لولا يناير العظيمة.

إن الحدث التاريخي لا يجب أن يتحمل نتائج ما حدث بعده، فالحدث، تاريخ عظيم لن يتجاوزه أحد والنتائج كانت بما كسبت أيدينا وما اقترفناه من أخطاء، ولن يأتي اليوم الذي نتنكر فيه لهذه الأيام العظيمة التي سقاها الله بالتوفيق مهما كانت إخفاقاتنا بعدها، فستظل يناير هي التاريخ الذي نعود إليه عندما نعرف أنفسنا بميلادنا الجديد.

لكننا اليوم وبعد خمس سنين وقد تأكدنا أن لا شفاء لنا من الذكرى، فلا يجب أن تتقيّد حركتنا فقط بحدث الثورة وخياله السياسي، نعم يجب أن نقف على أرضيتها ومتطلباتها ولكن لا بد أن نتخيّل نتائجها في المستقبل لكي نتخيّر حركتنا في الحاضر.

لا يجب أن تقف حركتنا على الاحتجاج والجماهير برغم أنه من الواجب على هذه الحركة أن تستمد قوتها من الجماهير وبسالتها في الاحتجاج، إن هذه الموازنة بين الحدث التاريخي والمستقبل أو بين الخيال السياسي والقوة الثورية هي التي نحتاجها اليوم لنتمكن من إحداث تغيير جديد يمكننا من الاستمرار، ويضمن حياة أفضل للجميع.

إن حركة التغيير اليوم أوسع من حدود المكان وحتى الفاعلين، التغيير اليوم ينبئ بخريطة جديدة في المستقبل تتجاوز السياسة والمجتمعات أحيانا للجغرفيا، فأين موقعنا؟ وما هو التصور السليم الذي يجب علينا التحرك بناءً عليه؟ وما هو التغيير المنشود الذي نتبناه في ظل فورة الغضب التي تجتاح المجتمعات، ودوائر النفوذ التي تتصاعد؟

هل سنقف مشدوهين ومتفرجين أمام ما يجري لا نتجاوز مساحة سب الجميع والسخرية منهم؟ أم أن وعينا بالتغيير سيعيد الدور لنا من جديد؟ وهل نحن جاهزون أمام أي فرصة تغيير جديدة أم سنكتفي بالانفعال بها ثم البكاء عليها؟ هل علّمتنا يناير شيئاً أم أننا لم نتجاوز مرحلة البكاء على الأطلال؟

أنا أشك أن يأتي حدث يسعدنا كما أسعدتنا يناير، وأشك أن تنفعل مشاعرنا كما انفعلت من قبل وتنخرط نفوسنا كما انخرطت من قبل، ولكن هذا لا يعفينا من مسؤولية الوفاء ليناير كحدث ولشهدائها كأبطال ونحن الذين ننتظر ولم ولن نبدل تبديلا.

(مصر)

المساهمون