جوليانو مير خميس في غيابه

03 ابريل 2015

جوليانو خميس: الفن وسيلة ناجعة ضد الاحتلال (6 إبريل/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -
ذهبت إلى مخيم جنين، تلبية لدعوة من جوليانو مير خميس، لعرض فيلمي"ظل الغياب" في مسرح الحرية الذي أداره بعد رحيل والدته آرنا التي أسسته لتكوين شباب المخيم مسرحياً. التقيته، أول مرة هناك، وكنت سمعت عنه، وعن عائلته الشيوعية، وكنت قد تعرفت إلى أخيه سبارتاكوس قبل سنوات في لندن.
كان جوليانو ممثلاً ومخرجاً سينمائياً ومسرحياً، وكان مؤمناً بأن الفن يمكنه أن يكون وسيلة ناجعة في معركة الفلسطينيين ضد الاحتلال، وكان شباب وصبايا مخيم جنين يحبونه، ويحترمون رسالته التي دفعته إلى العمل معهم، والعيش بينهم، وكان صديقاً لطلاب والدته آرنا الذين أرادوا ان يكونوا ممثلين مسرحيين، لكن الانتفاضة الثانية جرفتهم إلى مصير مأساوي، فمنهم من قام بعمليات انتحارية وقُتل، ومنهم من صار مطلوباً لجيش الاحتلال، مثل قائد كتائب الأقصى في جنين، المطلوب الأول زكريا الزبيدي. كان جوليانو يحرص على صورة القتلى، وعلى حياة الأحياء من "أولاد آرنا"، كما أسمى فيلمه الوثائقي البديع عن والدته. كان طيباً ودمثاً، ابناً لأم يهودية بالمصادفة وأب مسيحيّ بالمصادفة أيضاً، لكنهما بالحب والفكر والنضال كانا شيوعيين، وقد قادته أمه وقسوة الاحتلال إلى درب النضال مع شعبه الفلسطيني المقهور، وقتل على أرض جنين غيلةً، وفي قلب النهار، وأمام الفلسطينيين من أبناء شعبه، وكان جوليانو جميلاً، يمتلك قلباً يتسع لكل اللبس والغموض والعتمة التي تكتنف الهوية، في زمن تهتك فيه المعنى والحلم القديم.
يكتمل غداً، في الرابع من إبريل/نيسان، العام الرابع على اغتيال جوليانو، وعلى صمت السلطة الفلسطينية الذي لفّ حكاية اغتياله، والكشف عن القتلة. على الرغم من علاقاته الطيبة مع كتائب الأقصى ومع الدوائر الرسمية بالسلطة في جنين، وفوق ذلك علاقته الحميمة مع الناس من سكان المخيم، لم تبذل أجهزة الأمن الفلسطينية جهداً للكشف عن القتلة الذين يعتقد أصدقاء جوليانو أنهم ينتمون إلى قوى إسلامية أصولية، لا تؤمن إلاّ بالقتل وتصفية من يحمل مشروعاً، لا يتفق مع أفكارها، كما حدث بعد أسبوع من اغتياله، حين اختطف الناشط المتضامن مع الفلسطينيين في غزة، الإيطالي فيتوريو أريغوني، وتمت تصفيته، بعد أن عجزت الأجهزة الأمنية لحركة حماس عن اكتشاف مكانه، والجهة التي قتلته!
يثير اغتيال جوليانو وأريغوني، ثم انتحار المسرحي فرنسوا أبو سالم في رام الله بسبب اكتئاب العزلة، أسئلة تتعلق بمدى جاهزية المجتمع الفلسطيني لتقبل أفكار جديدة، يحملها أفراد مختلفون ثقافياً أو اجتماعياً، بمعنى: هل المجتمع الفلسطيني، في ظل التفسخ القائم في ثقافته، والشعور الكامن بالهزيمة الذي نتج من فشل السياسات والأفكار التي انتهجتها التشكيلات التنظيمية التمثيلية للفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة قادرٌ بنيوياً على قبول الآخر؟ فجوليانو خميس الذي يعتبره التعريف القانوني الإسرائيلي للمواطن يهودياً، لأن أمه يهودية، على الرغم من أن أباه فلسطيني يعرّف نفسه بانتمائه للشعب الفلسطيني، فكراً وهويةً وممارسة يومية ودفقاً عاطفياً، لم يفده كل هذا الانتماء والاندماج مع أبناء شعبه في مخيم جنين، ورفضه، في المقابل، الانتماء إلى ما يريده المجتمع الإسرائيلي، وتمرده على كل ما يمت لهذا المجتمع من عناصر الرؤية العنصرية التي تبرر الاحتلال والقتل والتنكيل.
في لحظات الهزائم والتراجع، واندحار القيم الاجتماعية والثقافية والسياسية، يصبح من المستحيل أن يقبل مجتمع تنخره القيم المتكلسة، وتهيمن عليه قوى الفساد السياسي والفكري والديني والمنفعي، المختلفين الذين لا ينتمون إلى الممتثلين لما هو قائم. كان جوليانو الفلسطيني المبدع ضحية صورته عن المجتمع الذي حلم بأن يساهم بتقدمه وتحرره، من خلال العيش معه، والعمل مع شبابه، طموحاً إلى أن يكون المسرح خشبة الخلاص لشبابٍ لم يجدوا أمامهم سوى خشبة التهلكة.

دلالات
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.