جماجم الشهداء ترسم مستقبل الجزائر
من المستحيل تصوّر أنّ رجالا استشهدوا منذ قرن ونصف القرن يمكنهم رسم مستقبل أوطانهم الذي عادوا إليه مكرّمين، وكأنّهم سياسيون ورجال دولة سيسهرون، من قبورهم، وبزخم ذكراهم، على بناء سياق جديد للحكم، وسياسة عامّة يتمنّى الجزائريون أن يصلوا بها، إن تغيّرت واستقامت، إلى تبوّؤ بلادهم الموقع الذي تخيّله هؤلاء الأبطال وهم في عالم الخلد.
تحتاج القراءة المتأنية لرمزية عودة تلك الجماجم إلى الجزائر فهما وتوجيها مختلفيْن عن مجرّد الاحتفاء واعتقاد أنّ ثمّة نصرا ما تمّ إنجازه على المظلوميات الاستعمارية الفرنسية، إذ إنّنا، في كلّ الحالات، مكلّفون باستلهام الدّروس التّاريخية، السياسية والإرشادية لجزائر المستقبل.
على المستوى التّاريخي، هناك بداية لعمل مضن سينتهي، حتما، وفق المسار القانوني، باعتذار فرنسا عن تلك الجرائم الاستعمارية، إذ إنّ مجرّد إطلاق سراح تلك الجماجم هو اعتراف ضمني يمكن الاستثمار فيه لإجبار فرنسا على الدّخول في عمليةٍ تفاوضيةٍ يُعاد للذّاكرة فيها دورها في تهدئة العلاقات بين البلدين، والتي يجب أن تمرّ، مهما طال الزمن، عبر جسر ثلاثية منطقية/ قانونية تتضمّن الاعتراف بالجرائم، الاعتذار ثمّ التّعويض.
إذا كانت هناك إرادة سياسية حقيقية، خصوصا من جانب فرنسا، فإنّ قبول باريس تسليم تلك الجماجم هو تسليم منها بوقوع فظائع في المناطق التي استشهد فيها هؤلاء الأبطال (شمال الصحراء الجزائرية)، حيث إنّ كل الوثائق التاريخية التي أرّخت لتلك المعارك أجمعت، بأقلام فرنسية، على أنّ احتلال مناطق بعينها استلزم إبادة ساكنيها، وخصوصا في الأربعين سنة الأولى من الاستيطان الفرنسي للجزائر (1830 - 1870) التي راح ضحيتها الملايين قتلا وتجويعا فضلا عن الترحيل، التعذيب والسّجن، بل والنّفي إلى جزر بالمحيطين، الهادي والأطلسي (كاليدونيا الجديدة وكايان، على التوالي)، على بعد آلاف من الكيلومترات من الجزائر لقبائل بأكملها بتهمة مقاومة فرنسا.
هناك كثير من أدلّة الإدانة لفرنسا، تتضمّنها أطنان من أرشيف الفترة الاستعمارية الأولى، بصفة خاصّة، ترفض فرنسا تسليمها أو فتحها أمام المؤرّخين، لدراسة ما تحتويه من اعترافات بإبادة السلطات الفرنسية ملايين الجزائريين، باعتبار أنّ الدّولة الفرنسية كانت في مهمّة محدّدة، هي الاستيطان، وتقتضي إحلال المعمّرين الأوروبيين محل السكان الأصليين، وهي تجربة مريرة، لم ولن تعرفها البشرية، إلاّ في أماكن قليلة من العالم، على غرار أستراليا، الأميركيتين الشمالية والجنوبية، جنوب إفريقيا، وفلسطين.
قبول باريس تسليم الجماجم هو تسليم منها بوقوع فظائع في المناطق التي استشهد فيها هؤلاء الأبطال في شمال الصحراء الجزائرية
على المستوى السياسي، هناك مهمّات قومية منوطة بالقيادة الجزائرية، ترتبط فيها إرادة التفاوض، لتحقيق الاعتراف الفرنسي بالجرائم الاستعمارية، بمقاربة بناء دولة، اقتصاد ومشروع قوّة، لأنّ ذلك كلّه منوط بإمكانية فرض منطق التفاوض بندّية، قصد الوصول إلى تحقيق الهدف المنشود باسترجاع بقية الجماجم (زهاء 500 جمجمة موجودة في متحف الإنسان، إلى الآن)، الأرشيف العثماني وأرشيف الفترة الاستعمارية، إضافة إلى استرجاع كرامة الذاكرة الوطنية، باعتذار فرنسا عن كلّ تلك الفظائع الاستيطانية المقترفة طوال الفترة التي حاولت فيها الاستيلاء على بلد بأكمله.
ما زال المشروع يفتقد إلى تفاصيله الدّقيقة، ويراوح مكانه، لأنّ السياسة العامّة التي تمّ حكم الجزائر بها، منذ الاستقلال، أضاعت الفرص، تلو الفرص، من دون أن تصل إلى تحقيق ذلك التناغم المطلوب بين الإمكانات المتوفّرة وإرادة استثمارها لبناء مشروع قوّة يمكنها الوصول إلى فرض منطق الندّية على فرنسا، في ملف الذاكرة، واحتلال مكانة في الإقليم، كانت ستجعل من الجزائر القيادة الطبيعية لها أو القاطرة للتوازن الاستراتيجي الذي يحول دون تلاعب فاعلين، من خارج الإقليم، أي غرب المتوسط، المغرب العربي والمنطقة الساحلية –الصحراوية، بمقدّرات المنطقة ومصيرها، تماما كما يجري، الآن، في ليبيا وفي السّاحل، خصوصا، وكما يجري على مستوى التأثير في أسعار النفط، في السوق الدولية، بما يمنع تدهور أسعارها، كما نراه ماثلا، حاليا، أمام أعيننا.
مهمّات قومية منوطة بالقيادة الجزائرية، ترتبط فيها إرادة التفاوض، لتحقيق الاعتراف الفرنسي بالجرائم الاستعمارية، بمقاربة بناء دولة، اقتصاد، ومشروع قوّة
نصل، في النتيجة، إلى المستوى الإرشادي، بمعنى الخط الذي يمكن لجماجم العظماء أن ترسمه لنا، انطلاقا من الاعتراف بأن المرض العُضال الذي نعاني منه حان وقت زواله، لأن عظمة اللحظة التي عاشها الجزائريون، عشية ذكرى أغلى يوم في تاريخهم، اليوم الذي عادت فيه الجزائر إلى أهلها، هي اللحظة التي يمكن أن يتخذوها منطلقا لتدارك نقائص المستويين اللذين ذكرت أعلاه عيوبهما تاريخيا وسياسيا.
إرشاديا، تدلّنا تلك الجماجم على أنّ المواجهة المباشرة هي الطّريق الأسلم للوصول إلى المبتغى، ذلك أنّ أبطال الجزائر لم يخافوا من فرنسا، على الرغم من عتادها وسلاحها، بل واجهوها بصدور عارية، وبمشروع واضح المعالم، يتضمّن الحصول على السيادة التامة، فلا يحكمهم إلاّ من يرتضونه، ولا يسيّرون بلادهم إلاّ بما يوصلهم إلى تلك الإرادة، إرادة التمتع بتلك السيادة كاملة غير منقوصة.
قبل أسابيع، تحدّث وزير الخارجية الجزائري، صبري بوقادوم، عن ثلاثية تحكم السياسة الخارجية الجزائرية، السيادة والأمن والتنمية، وهي العناصر نفسها التي يمكن الارتكاز عليها لبناء جزائر المستقبل التي تتمتع بكل السيادة وتحقّق كلّ الأمن، وتعمل لتجسيد التنمية، وهي، للعلم، نقاط فشل المشروع الذي حلُم الجزائريون بالوصول إليه، منذ كتابة بيان الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، الذي نص على أن الهدف من الثورة التحريرية الكبرى تحقيق الدولة الجزائرية العادلة في إطار المبادئ الإسلامية، أي في إطار الرّوح الحضارية للجزائر. والحقيقة أن ما حدث، نحو 60 عاما، هو عكس ذلك كله. ولعل الكاتب لا يكشف سرّا إذا تحدث، هنا، عن مئات مليارات الدولارات التي يقول الاقتصاديون والخبراء إنها ضاعت على الجزائر في فترة الطفرة النفطية، أو تلك الأرقام الفلكية للفساد الذي انخرط فيها ناهبو المال العام، أو من يسمّون، في الجزائر، تجاوزا، رجال أعمال، وساعدهم في ذلك مسؤولون سامون، هم الآن يجنون ثمن فسادهم أمام المحاكم.
إرشاديا، أيضا، يرسم هؤلاء الأبطال طريق العودة إلى تجسيد مشروع الدولة القوية، من خلال بسالتهم التي أجبرت فرنسا على ارتكاب أفظع الجرائم، وتعمّد التنكيل بهم أحياء، ثم نفيهم وهم أموات، ما يدل على أنّ ثمّة إرادة حديدية لشعب عظيم، يمكن الارتكاز عليها لبناء تلك الدولة القوية، وكأنها عودة إلى مسار التقدّم الذي جاءت فرنسا لتحول دون إتمامه في 1830، بل وتعطيله ومحاولة محو شعبه من الوجود.
هل يمكن الاعتماد على مثل هذه الأحداث العظيمة للعودة إلى استلهام نبراس التنمية وتجسيد التوافق الاجتماعي، لبناء الدولة العادلة والقوية؟ سؤال تجد أثره عند تلك الجموع التي راحت لتلقي النظرة الأخيرة على ذكرى الأبطال، وكأنها تبحث عندهم عن وصفة المسار الجديد للانبعاث، وتلك رسالة الأموات إلى الأحياء، فما بالنا لو أن تلك الرسالة لم تأت من عدد من الأبطال، بل من نحو عشرة ملايين من الشهداء الذين قضوا لنرى الجزائر حرّة مستقلة وذات سيادة.
إرشادياً، يرسم الأبطال طريق العودة إلى تجسيد مشروع الدولة القوية في باريس، من خلال بسالتهم التي أجبرت فرنسا على ارتكاب أفظع الجرائم
هذه هي المستويات التي يمكن من خلالها تعظيم هؤلاء الأبطال، وليس الاكتفاء فقط بإحياء ذكراهم، ذلك أن تضحياتهم هي محاولة منهم لرسم معالم المشروع الذي يحقق للجزائر عودتها إلى نقطةٍ توقفت عندها في يوليو/ تموز 1830، عندما وطئت أقدام الفرنسيين الجزائر. ولعل ما حدث منذ إبطال الحراك للعهدة الخامسة للرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، هو ضرب من تلك الاستفاقة من الغفوة، للتحرك نحو إيقاظ الهمم، من جديد، بسواعد كفاءات الجزائر ومقدراتها في بلد بحجم قارّة يمكنه النهوض والعودة، وليكون قاطرة للمنطقة بأكملها، تحول دون تعلق مصير الإقليم بفاعلين ليسوا منه.
هل نستفيق؟ ربما .. لكن النداء كان قويا، والإرادة للاستجابة تقتضي فهم النداء، التحضير للنهوض من الغفوة، ثم رسم معالم الأدوات والأهداف .. إنّها إستراتيجية يرسمها أبطال عادت جماجمهم، فهل ترضى أرواحهم على ما سنفعله بالجزائر في الغد المنظور؟ وإن غدا لناظره لقريب.