تونس: جندوبة تصنع الثورة ولا تقطف ثمارها

تونس: جندوبة تصنع الثورة ولا تقطف ثمارها

06 مارس 2015
الدولة الغارقة في جندوبة (أمين الأندلسي/الأناضول)
+ الخط -
محت شمس يوم الأربعاء الحارقة، مظاهر المياه التي غمرت مدينة بوسالم في محافظة جندوبة، في الشمال الغربي التونسي، لكنها عجزت عن محو حقيقة المأساة المستمرة منذ أكثر من خمسين عاماً، على غرار مناطق تونسية أخرى تعاني الوضع عينه وتلقى التهميش والنسيان، والعقاب السياسي. ومع أن جندوبة والقصرين والحوض المنجمي وغيرها من المناطق فجّرت الثورة التونسية في العام 2011، مطالبة بحقها في البلاد، فإنها لم تعرف أي تحسّنٍ يُذكر في حلّ مشاكلها المتراكمة في كل مجالات الحياة.

يوم أول من أمس الأربعاء، كان حافلاً في جندوبة، التي شهدت زيارات حكومية وحزبية، بالتزامن مع تصريحات وزارية عدة، في سياق تقييم حجم الأضرار الناجمة عن الفيضانات في المدينة، والبحث عن حلول عاجلة، وسط غضب شعبي واحتجاجات تطالب بإقالة المحافظ نجيب الخبوشي.

تحوّلت جندوبة من مأساة إنسانية واجتماعية، إلى الحدث السياسي الأبرز في الأيام الأخيرة في تونس، وخصوصاً أن معظم الأطراف السياسية، الرسمية والشعبية، تبادلت الاتهامات مثلما درجت العادة في كل مرة تقع كارثة طبيعية في المنطقة، فيما يواصل الناس رحلة بحثهم عن لقمة العيش، ومحاولة الحدّ من حجم الأضرار التي لحقت بمنازلهم وممتلكاتهم.

وتجمّع المئات من مواطني جندوبة أمام مقر المحافظة، ومعظمهم من عمال الحظائر الذين يطالبون بتسوية أوضاعهم الهشة. ولفت أحد المحتجين لـ "العربي الجديد" إلى أنه حاصل على شهادة عليا ومتزوج وأب لعائلة، ولكنه لم يجد عملاً، فلجأ إلى الولاية، التي وظّفته مع عمال الحظائر، مقابل حوالي 40 دولاراً عن كل عشرة أيام عملٍ في الشهر، لأن الميزانية المرصودة لعمال الحظائر محدودة ولا بد من تقسيم العمل بين الجميع.

يرى عضو "نداء تونس"، النائب عن محافظة جندوبة شاكر العيادي، في حديث لـ "العربي الجديد"، أن "مشكلة جندوبة ليست في الفيضانات فقط، بل هي مشكلة سياسية تراكمت مع كل الأنظمة التي مرّت على تونس، فقد عاقبها (الرئيس السابق الحبيب) بورقيبة، لأنها ساندت منافسه التاريخي صالح بن يوسف، بينما عاقبها (الرئيس المخلوع زين العابدين) بن علي، بسبب احتجاجاتها المتواصلة، وتواصل عقابها بعد الثورة مع الحكومات المتعاقبة".

وشدد العيادي على "ضرورة أن تبحث الحكومة عن حلول جذرية لجندوبة تنهي معاناتها"، مشيراً إلى أن "المحافظ غير كفوء ولم يستطع إنجاز مشاريع، على الرغم من رصد الاعتمادات للمنطقة، ولكنها معطّلة بسبب التقصير الإداري". وتابع: "لا يستطيع المحافظ التواصل مع المجتمع المدني، ويجب تغييره سريعاً لأنه جزء من المشكلة، إذ لا يُمكن تسيير شؤون الناس بعد الثورة بعقلية ما قبلها".

وكشف المدير الجهوي للدفاع المدني في جندوبة منير الريابي، في حديث لـ "العربي الجديد"، أنه "وقّع الاستنجاد بكل الأعوان الموجودين في مناطق أخرى، مثل سليانة والمنستير والمهدية وسيدي بوزيد ونابل وبنزرت وسوسة والقيروان، لمواجهة الوضع الطارئ".

اقرأ أيضاً: السبسي على خطى بورقيبة في التعاطي مع الإعلام

وأضاف أن "الدفاع المدني تمكن من إزالة المياه التي غمرت مدينة بوسالم، تحديداً في أحياء الديامنتة والخليج وفطومة بورقيبة وحشاد والنقرة والسنيت وعمادة السمران، وكذلك معتمديتي بلطة بوعوان وغيرها". ولفت إلى أنه "لم يتبقّ إلا بعض المنازل القليلة لإزالة ما ترسب فيها من مياه"، كاشفاً أن "الحلول العاجلة تتمثل في مجرى وادي مجردة المنبسط بطول خمسة كيلومترات، وإتمام إنجاز قناة مجردة في بوسالم، ومراجعة موضوع التصرّف في السدود".

وليس بعيداً عن بوسالم، وفي الطريق التي تربطها بمدينة تبرسق، تحديداً في قرية بئر الأخضر، يخلو معهد ثانوي من طلّابه وأساتذته. ويشير مديره منير الرضواني، في حديث لـ "العربي الجديد"، إلى أن "معظم طلاب المعهد يأتون من مناطق تبعد أحياناً 30 كيلومتراً، محاصرة أيضاً بالمياه".

وأشار الرضواني إلى الوضعية الصعبة لمرافق المعهد، التي اهترأت في غياب أي إمكانية لصيانتها، وفي وقتٍ تواصل بقية المعاهد في البلاد تقديم دروسها رغماً عن الإضرابات، ينتظر معهد بئر الأخضر، أن تعيد الإدارة الجهوية، جدولة الامتحانات من جديد. وكشف أن "مبيت المعهد تحوّل إلى مركز إيواء لأعوان الدفاع المدني، الذين قدموا من جهات أخرى لإغاثة بوسالم وجندوبة".

من جهته، ذكر وزير التجهيز الذي زار جندوبة الأربعاء، في تصريحات صحافية، أن "الحلول الجذرية الحقيقية لمشكلة الفيضانات المتكررة، تتطلّب سنوات واعتمادات كبيرة، لا بد من تأمينها". وشدد على "ضرورة عدم تقديم وعود كاذبة للأهالي، فالحكومة التي ستعقد مجلساً وزارياً خاصاً بجندوبة، بعد تقييم الوضع على الأرض، ستبحث في حلولٍ سريعة لهذه المشاكل للحدّ منها".

كلام أكده الرئيس الباجي قائد السبسي، في اتصال هاتفي مع الإذاعة الرسمية، ذكر فيه أن "مشاكل جندوبة على غرار جهات أخرى من البلاد، هي مشاكل حقيقية متراكمة منذ سنوات"، مشدداً أنه "لا يملك عصا سحرية لحلها كلِّها"، داعياً إلى "عدم تقديم وعود زائفة للناس وتكتّل جميع الجهود للعمل على تقييمها والبحث عن حلول لها".

وكانت قيادات بارزة من "الجبهة الشعبية" وصلت إلى جندوبة وبوسالم، وحمّلت مسؤولية الوضع إلى "الحكومات المتعاقبة منذ بن علي إلى حكومة الترويكا، التي لم تتخذ الإجراءات الضرورية للتصدّي للكوارث الطبيعية في المنطقة".

وطالبت "الجبهة" الحكومة، بـ "اتخاذ الإجراءات العاجلة والضرورية لمساعدة المتضررين ودفع تعويضات لهم، عن الخسائر التي تكبّدوها، والمبادرة من دون تأخير بوضع خطة لمعالجة الوضع بصورة جذرية، وإشراك الأهالي، الذين ملّوا التسويف".

وقال نائب الجبهة عن جندوبة، منجي الرحوي، إن "جندوبة تعاني من الظلم والتهميش وتسجل أكبر معدلات البطالة والفقر وتفتقر إلى البنية الأساسية، وتردّيها في حال وُجدت، على الرغم من مواردها وطاقاتها المائية والزراعية والسياحية، وإسهامها بشكل كبير في حياة التونسيين".

وتتميز محافظة جندوبة بالفعل بثروات متنوعة، من سهل منبسط يحوي مزارع قمحٍ بين الجبال. وكانت تُكنّى بسبب وفرة محصولها بـ "سوق القمح" و"سوق الأربعاء"، كما تتميز بطاقات سياحية مذهلة، بين مدينة طبرقة على ساحل البحر (رغم تعطل مطارها) ومدينة عين دراهم، التي شهدت مأساة بعد تراكم الثلوج في العام 2013 والعام الحالي.

وفي المحافظة سلسلة من المدن والشواهد الأثرية الخلابة على غرار "بلاريجيا" (مدينة تاريخية توالى على حكمها فينيقيو قرطاجة فالرومان ثم النوميديون)، ومدينة استشفائية رائعة هي حمام بورقيبة، لكنها لم تلق الرواج السياحي نفسه، الذي تلقاه مدن تونسية أخرى، بل تحولت الجبال المحيطة بجندوبة إلى مصدر قلق متواصل، بسبب تحصن بعض المجموعات المسلّحة فيها، والانطلاق منها للاعتداء على الأمنيين والعسكريين والمواطنين، ما زاد في حجم معاناة المنطقة التي تلقّت ضربات موجعة أدت إلى مقتل عدد من العسكريين.

اقرأ أيضاً: غضب من الإعلام التونسي: ما هكذا تغطّى الكوارث