توفيق الحكيم.. العائد إلى أكثر من ينبوع

توفيق الحكيم.. العائد إلى أكثر من ينبوع

26 يوليو 2018
(توفيق الحكيم، تصوير: جاك بافلوفسكي)
+ الخط -

اجترح توفيق الحكيم (1898 - 1987)، الذي توافق اليومَ ذكرى رحيله، مساراً أدبياً غير نمطي، شمل طُرفاً من أجناس القول، المعروفة والمبتكرة. على أنَّ رابطاً فريداً ظلّ يحكم إنتاجه الغزير، رغم تراميه على مدى خمسة عقود.

كان هذا الرابط بمثابة هيكل داخلي، يصل ما كتبه بالينابيع الأسطورية، ينهل من شخصياتها ويطوِّع أحداثها المتخيّلة لاستكشاف الوجود والتفكير في قضايا العربي المعاصر. ثم أضفى على عناصر تلك الينابيع نزعته "الذهنية"، فجعل الأفكار تتصارع على حلبة النصوص المكتوبة، وفي الآن ذاته تستدعي وظائف "الرصيد الأسطوري المشترك للإنسانية"، كما يُسمّيه رولان بارت.

ومن مظاهر الاتكاء على هذا الرصيد، العودُ إلى الإرث الإسلامي باعتباره مُحرّكاً أدبياً وموئلاً رمزياً، فضلاً عن كونه مضموناً يُغذّي الأدب. وهو ما يُشرِّع التساؤل عن مدى تأثير عنصر الدين في فنّ الحكيم وعن آليات توظيفه له.

تجدر الإشارة بدءاً إلى أنَّ صاحب "التعادلية" مَتَح من المصادر الإسلامية ضمن تجوال أوسع بين ذاكرات البشرية بأسرها؛ فقد استمد شخصياته من الماضي الفرعوني والملاحم الإغريقية والمسرحيات الأوروبية (وخاصة الفرنسية)، بعدما تمكّن من آدابها وتعرّف على نصوصها بلغاتها الأصلية خلال فترة إقامته في باريس بين سنتَي 1925 و1928، لإعداد دكتوراه في القانون، وكان قد درس الفقه الإسلامي وتشريعاته في الأزهر.

ويؤكّد هذا التعدّد في التحصيل المعرفي تداخلَ الينابيع التي استقى منها، وتلاقي سواقيها في أعماله، إذ جمع بين استحضار التراث الإسلامي والفنون الشعبية المصرية، إضافةً إلى مدوّنة الفلسفة الغربية والأدب العالمي الحديث، وأفكار عصر النهضة وجهود روّادها التحرّرية.

ولذلك سعى الكاتب المصري إلى التوفيق، ليس فقط بين عوالم رمزية متباعدة، بل أيضاً بين أشكالها التعبيرية ومراجعها الاستعارية المختلفة. وتُمثّل المواءمة بين الإرث الإسلامي والأساطير الإغريقية والفلسفات الغربية مبحثاً إشكالياً يجدر الاعتناء به أكثر في ثقافتنا، وهو موضوع انتبه له الدارسون في الغرب.

ويمكن أن نُذكِّر في هذا السياق بأطروحة الأكاديمية البلجيكية لورانس دونوز (1972)، بعنوان "بين الشرق والغرب: الأثر الإغريقي والفرعوني في أعمال الحكيم" (2002)، والتي ركّزت على كيفيات استعادته للمتن اليوناني - الهليني hellénistique وأشكال تأثير الأخير في رؤاه الفنّية وقد تجسدت نصوصاً عربية اللسان عريقة البيان.

ولا تظهر هذه الاستعادة للروافد المتباعدة في مستوى مضامينها فحسب، بل في الخيارات الأجناسية أيضاً. ومن أطرف ما أنجز الحكيم صياغته للسيرة النبوية (1933)، ضمن القالب المسرحي، بما هو جنس أدبي لم يعرفه العرب قبل احتكاكهم بالغرب نهايةَ القرن الثامن عشر، فاستدعى أحداث السيرة بأسلوب دراميّ، جعل منها سلسلة من "المشاهد" تتالت عبر بنية الحوار والعرض المسرحي. ولم يكن ذلك بلا تبعات مضمونية، فقد استعاد الحكيم الجوانبَ البشرية للنبي، بعيداً عن مبالغات المؤرّخين القدماء.

كما اصطرف من النص القرآني قصّة أهل الكهف (1937)، فتخيل حواراتٍ بين شخوصها، ضمن معالجة فريدة لمعضلة الزمان. وهنا، أيضاً، لم ينظر إلى تلك الأمثولة باعتبارها قصَصاً قرآنياً، يُمجّد جهاد فتية الإيمان ضدّ الطغاة، بل انطلق منها لاستكشاف علاقة الإنسان بالزمن، وهو موضوع أساسي في الفكر المعاصر.

واللافت أنه، في أواخر مساره التأليفي، وضع "مُختار تفسير القرطبيّ" (1977) في جزء واحدٍ، لخّصه من "الجامع لأحكام القرآن"، الواقع في عشرين جزءاً، مستصفياً منه عصارة هذا العلم. وبعده بخمس سنواتٍ، كتب "التعادلية والإسلام" (1983)، بحثاً في علاقة هذا المفهوم بالمبادئ الدينية، فاستنتج منه ما يشبه القانون الذي يحكم الإسلام باعتباره رؤية للعالم وفلسفة وجودٍ. وجهد في مقارنة الأفكار الحديثة، الهيغلية منها بالخصوص، بما جاء في القرآن والحديث، ليُثبت مدى تلاؤمها مع قضايا الثورة والحرية والعدالة والمسؤولية الفردية، وذلك عبر برهنة تؤكّد التوازن بين العقل والإيمان، الدين والدنيا، الروح والمادة.

ولعلّ أعجب ما كتبه، في هذا الإطار، "الأحاديث الأربعة" (1983)، وهي سلسلة محاوراتٍ طرح من خلالها بعض الإشكالات الناجمة عن التواجه بين الإسلام والحداثة، صاغها في قالب أسئلة وتخيّل لها إجاباتٍ أجراها على لسان الله، وأردفها بجمل من المناجاة تُشارف الشطح الصوفي، ويضوع منها عميقُ إيمانه برسالة الدين.

ثمّة فرضيات عدّة يمكن أن تفسّر هذا التلازم بين نتاج الحكيم الأدبي والاتكاء على المصادر الإسلامية. فهل كان مجرد مسايرةٍ منه لحساسية جمهور القرّاء العربي - المسلم، الذي ربما حضر في فكره كأفق انتظار؟ أم هي "توبة" فكرية توصّل إليها بعد سنوات التشريق والتغريب في دروب الفكر العالمي؟

لا يبدو أنَّ الحكيم رضخ لضغوط القارئ التقليدي، ولا نراه سعى إلى مجاراة حساسيته الدينية، بل بالعكس صدمها غير ما مرّة، ولكن من دون ازدراء، ومسَّ هالات القداسة التي تحيط برموزه، ولكن بلا استخفافٍ. فهو ما فتئ يخاتل القارئ، في رفقٍ وذكاء، حتى بات من العسير عليه أن يصنّفه ضمن ثنائية الأصالة والليبرالية، فظلّ "عصفوراً من الشرق" ينتقل من دوحة إلى دوحةٍ، يبحث في أغصانها عمّا ينعش به روحه الظمآى.

لم تكن علاقة توفيق الحكيم بالمصادر الإسلامية رتيبة ولا نمطية، بالرغم من أنها ظلّت ثابتة على مدار عقود الكتابة المديدة. حكمت بداياتِه وأثّرت في توجّهاته، وظلت متوتّرةً متأجّجةً؛ إذ تعاملَ مع التراث الديني بعقل حر؛ جامعاً بين رؤية الفيلسوف الذي يغوص في أمّهات القضايا الإنسانية؛ مثل: النفس، والزمان، والمكان، والعقل، والغريزة، وبين شعور الفنان وحسِّه. وقد توّج كلّ ذلك بخلجات قلبٍ مؤمِن.

وهكذا، ربما يكشف تداخل المؤثّرات في كتابات الحكيم عن صورة نفسه القلقة وحيرة فكره المتوثّب؛ فقد كان يعود إلى تلك المناهل لتصوير ما يعتري ذاته هو من صراعات وتناقضات. وذلك مما يميّز الإنسان الحديث.

ولا شك أن الثقافة العربية استفادت من تعدّدية مصادر الحكيم، فقد تربّت على أعماله أجيال عديدة، منذ العقد الثالث من القرن العشرين إلى يومنا، وساهم أسلوبُها في تحديث الضاد وتطوير أبنيتها الشكلية والتعبيرية، حين صارت قادرةً على تصوير مشاغل إنسان العصر وعرض مواقفه إزاء العالَم والعقل والروح.

المساهمون