تكنوقراط ملائكة وساسة شياطين

تكنوقراط ملائكة وساسة شياطين

18 مايو 2014

A-Digit

+ الخط -
غادرت الترويكا في تونس الحكم نتيجة "توافقات سياسية" لا أحد يعلم ما حجم التدخل الخارجي فيها، كما لا أحد يعلم طبيعة القوى من خارج الأحزاب الحاكمة، والرباعي الراعي للحوار الوطني (مؤلف من كبرى المنظمات الوطنية التي ساهمت في اختيار التشكيلة الوزارية للحكومة الحالية). لكن، في مقابل ذلك، نعلم أنه حتى مدربو المنتخبات الوطنية في كرة القدم، وهم ينتقون تشكيلات نخبهم، يقعون تحت طائلة تأثيراتٍ عديدة، ما لا يجعل ذلك القرار عقلانياً صرفاً. هناك ضغوط تمارس عليهم طوراً بشكل مباشر، وآخر بشكل غير مباشر. ما وراء الحرص على التذكير المستمر باستقلالية القرار هو اعترافٌ بالوقوع تحت دائرة مراكز نفوذ ما.
الإقرار بهذه الحقيقة العلمية، على الأقل، في مجال حقل الإنسانيات والسياسة خصوصاً، يكاد يكون من باب المسلّمات العلمية. قراراتنا يشاركنا فيها طرف ما، طوعاً أو كرهاً، فهناك دوماً أحد ما يتخذ معنا القرار في سياقاتٍ لا تخلو من الضغوط، ولكن "لا خاب من استشار"، هكذا تحضّنا الأمثال العربية، ولكن، تكمن المعضلة في من نستشير.

وزراء الحكومات في الدنيا كلها لا يُختارون وفق اختبار أو مناظرة وطنيةٍ أو دولية معلنة، تجري فيها اختبارات شاقة بين المترشحين في مادة "مشمولات وزاراتهم"، ولن يشذ "التكنوقراط" الذين تشكلت منهم حكومة السيد مهدي جمعة عن هذه القاعدة.

ومع ذلك، يصر العديد من السياسيين والإعلاميين، وحتى المثقفين، وهم يقرأون التشكيلة الحكومية الحالية، على أنها من التكنوقراط الخالص، ويتناسى هؤلاء أن استراتيجيات التسمية ليست بريئة. يمنحنا سوق التسميات عدة ممكناتٍ، كان في الإمكان أن نسمي بها الحكومة الحالية: حكومة مؤقتة، حكومة غير متحزبة، الحكومة الخامسة بعد الثورة، الحكومة الثالثة بعد الانتخابات، حكومة ما بعد الترويكا، حكومة مهدي جمعة، حكومة خريطة الطريق، حكومة التوافق الوطني. إن انتقاء تسمية حكومة التكنوقراط وترويجها، وجعلها أكثر تداولاً إلى حد فرضها باعتبارها التسمية "الرسمية"، يخضعان إلى تلك الاستراتيجيات. فما ملامح هذه الاستراتيجية، وما أبعادها وأهدافها؟

يقوم منطق تسمية حكومة التكنوقراط على ثنائيةٍ، يفصح عنها بعضهم، ويتكتم عنها آخرون، وهي ثنائية تكنوقراط مقابل سياسيين، خبرة مقابل انعدامها، كفاءة مقابل عدمها، حياد مقابل موالاة، موضوعية مقابل ذاتية، زهد مقابل منفعية، عمل مقابل قول، عقلانية مقابل مزاجية. وفي وسعنا أن نستحضر ما لا نهاية من المقابلات التبسيطية، فالتبسيط والتسطيح من آليات التحشيد والشحن الأكثر شراسة وفتكاً في الخطاب السياسي الذي يقوله الساسة، ويتضاعف حين يدّعيه "التكنوقراط".

تُمنح استراتيجية تسمية حكومة التكنوقراط من الامتيازات ما يجعلها حكومة صفوة ذات الكفاءة والقدرات الاستثنائية... هكذا، بدأت تدر التسمية على الحكومة من الخيرات الرمزية، ما جعل بعضهم يبدي الرغبة في استبقائها إلى ما بعد الانتخابات، في مصادرة على المجهول خطيرة، ذلك أنها تقفز على نتائج الانتخابات واستحقاقاتها، وذلك ما يقيم الدليل على أن تلك التسمية منخرطة في استراتيجيات أوسع وأكبر من مجرد تواضع دلالي.
أسطرة التكنوقراط، على حد قول الفيلسوف الألماني هابرماس، في كتابه "التقنية والعلم كأيديولوجيا"، يراد منها الارتفاع بهم إلى درجة "الحواريين"، وذلك ما يجعلهم فوق التقييم. ومع التكنوقراط، أيضاً، يموت الزمن ويستوي أبداً وتصبح الصلاحية بلا أجل. ويتذكر المتابعون للشأن السياسي في تونس كيف لعب معارضو "الترويكا" على مصطلح "الصلاحية"، بعد انقضاء سنة من انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011. تلك المفردة التي طابقوها مع أجل نفاد مواد الغذاء والأدوية، وكيف ضمن ذكاءٍ سياسي، ولدوا منها من الاستعارات ما جعل إبقاء الحكومة مفسدة، بل تسمماً سياسياً، على غرار ما يحدث لمستهلكي تلك المواد، بعد انقضاء آجالها.

التكنوقراط تذهب عكس هذا الاتجاه، انها تكنوقراط بيوطبيعية في حالة صفائها المطلق السرمدي غير المتزمن، وهي بذلك "صالحة لكل الأوقات". تمنح التكنوقراط حصانةً من كل الشرور والسيئات التي تنخر ضمير الساسة وأعمالهم، وتتجرد النوايا في حلةٍ من الصفاء المطلق، حتى يصبحوا لا ينطقون عن الهوى، ولا يأتون إلى ما كان صالحاً لوجه الوطن.

رأينا عضو حكومة يذم الساسة والسياسة، متباهياً بأنه متفرغ للعمل فقط، تاركاً اللغو للسياسيين. ويذكّرنا قوله بتبرؤ الفنانين واللاعبين من السياسة، إبان نظام زين العابدين بن علي، وقد كان الاهتمام بها تهمة. التكنوقراط مزيج من الآلهة والروبوتيزم والتيليماط والاستشعار عن بعد. إنهم آلات ضخمة معقّدة مزروعة بجملة من الشرائح الإلكترونية، ومختلف البرمجيات الموزعة بين النجاعة والكفاءة والخير العام. تكنوقراط ما بعد الثورة في تونس هم نصف آلهة ونصف روبوات تليماتية، متفانية في محراب الوطن. اما الساسة فهم، على خلاف ذلك، شياط...ين.

يعيد هذا الخطاب التكنوقراطي إنتاج أشد الصور فتكاً بالسياسة، حينما تعيد إنتاج الخطاب العامي السيئ المتداول على أساس أن السياسة والسياسيين رجس من عمل الشيطان فاجتنبوهما. دفع الناس إلى تأثيم السياسة وازدراء السياسيين ليس إلا إجلاءً للمواطنين من الفضاء العام والاستيلاء عليه بشكل ناعم. 

لا يندرج خطاب التكنوقراط، الرائج في هذه الأيام، إذا ما وضعناه في سياقات "التوافقات" العامة التي أشرنا إليها سابقاً، سوى في مسعى إفراغ الديموقراطية من استحقاقاتها، وتعويضها بممارسات أخرى. نخشى أن يتم تدريجياً، باسم النجاعة،  سلب الإرادة الشعبية التي تعبّر عنها صناديق الاقتراع، وتعويضها بالتوافقات، فلن تكون الحكومات، آنذاك، انعكاساً للأحزاب في ميزان القوة الانتخابية،  بقدر ما تكون تفاهمات من فوق الناخبين وإراداتهم، كما أن التكنوقرط لن يكونوا سوى البديل المؤقت/الدائم الذي سيظل مسلطاً على رقاب الطبقة السياسية، وتحرص أطراف سياسية ومالية عديدة، بشكل خاص، حالياً، على إنجاحه، حتى يظل النموذج الأمثل الذي لن يكون ربما حلاً، إذا ما فشلت حكومة، لسبب أو لآخر، بل حالة  دائمة  لنجاعته، وبذلك يسجل سحب أهم ما في الديموقراطية، التجريب والمجازاة وفق المنجز.

التكنوقراط وأيديولوجيتها يزعمان أنهما ينتجان نسقاً يتوالد ذاتياً، ويضفي على نفسه من الشرعية ما يشاء، لأنه يعد بمزيد من الإنتاج، ولا شيء غير الإنتاج الذي يفيض على الجميع رفاهة ورخاء. وعلى افتراض أن ذلك الادعاء صائب، فإن تحققه على المدى القصير مع حكومة التكنوقراط، أو غيرها في تونس، أمر شبه مستحيل.

لو نجحنا في إنتاج هذا النموذج: ثورة بلا زعامات، وحكومات بلا ساسة، ومجلس وطني تعوضه منظمات وطنية، لأنجزنا انتقالاً ديموقراطياً غريباً وفريداً، لكن ذلك سيكون علامة تونسية خالصة (صنع في تونس)، مع حفظ حقوق التأليف.

ثمة روبنسون كروزو بصدد اكتشاف جزيرة السياسة التونسية، وهي جزيرة آهلة بالثوار، يناكف فيها ساسة من الشياطين تكنوقراطاً من الملائكة.
 
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.